بقلم: سمير بشوال مستشار في استراتيجيات المؤسسة كاتب الدولة السابق […]
بقلم: سمير بشوال
مستشار في استراتيجيات المؤسسة
كاتب الدولة السابق للتجارة
في التاريخ الوردي للقطاع العام
استغرق بناء الدولة الوطنية سنوات من العمل والاجتهاد وقد سبقه الفكر الإصلاحي للزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة ورفاقه من بناة دولة الاستقلال، وقد كانت أبرز وأوكد الإصلاحات الثورية وأهم رهاناتها تونسة الإدارة خلال سنوات الاستقلال الأولى وتكوين كفاءات حملت مشعل وضع و تركيز أسس العمل الإداري من حيث التصرف وإدارة المرفق العام .وكان العمل في الدولة عموما وفي الإدارة التونسية على وجه الخصوص مصدر فخر واعتزاز بالنسبة لمختلف الأسلاك والمهن الإدارية على غرار حاملي الزيّ والقضاء والإداريين بمختلف المصالح المركزية للوزارات.وبالرغم من تواصل هذا النهج القائم على تثمين الانتماء إلى الإدارة التونسية طيلة فترتي الحكم السابقتين للثورة حيث اختارت منظومة الحكم و رشحت أسماء كثيرة من داخل الإدارة لتقلد مناصب وزارية في الحكومات المتعاقبة .وعموما أشرف الوزراء المنتمون إلى الإدارة بصرف النظر عن التقييمات السياسية للمرحلة السابقة بكل حنكة على حسن تسيير القطاعات الفنية خاصة الاقتصادية منها من خلال تصور وتنفيذ برامج احتذت بها وقلدتها بنجاح دول افريقية وعربية عدة على غرار قانون المرحوم الهادي نويرة لتشجيع المبادرة الخاصة من خلال بعث هياكل الدعم والإحاطة في قطاعي الصناعة والفلاحة وقانون 1972 الذي طور آليات تشجيع المؤسسات المصدرة كليا والذي أسهم في تركيز الصناعات النسيجية ودعم قطاع التصدير وغيرها من البرامج التي أشرفت هياكل الإدارة على تنفيذها على غرار برنامج تأهيل الصناعة وبرنامج دعم الصادرات وغيرها كثير يتسع ذكرها لأكثر من مقال.ومع موفى الثمانينات وتزامنا مع برنامج الإصلاح الهيكلي وتحرير الاقتصاد عرفت الوظيفة العمومية تراجعا في قيمتها المعنوية مع تراجع القدرة الشرائية للموظف العمومي و تموقعه الطبقي إلى مستوى التفقير والتهميش الاجتماعي.و لم يعد الموظف مصدرا لأحلام وردية في التموقع الاجتماعي كما كان في السابق بل بالعكس أضحى مصدرا للتندر حول فراغ الجيب وقلة ذات اليد بل لعل موظفي القطاع العام في تونس هم الأقل أجرا مقارنة حتى بالبلدان العربية غير النفطية ومستوى الأجور في تونس يعدٌ من بين الأضعف على الصعيد الدولي.
من الاتهام إلى الشيطنة
تشكلت القوى السياسية التي انتخبت لتولي مقاليد الحكم بعد سنة 2011 من بين قوى المعارضة للنظام السابق وكانت تبطن للإدارة ما تبطنه لجلادها بمنطق الضحية.وفي إطار الخلط بين السياسي والإداري الفني و بين الأمني وإشكالية الحريات في تونس حمل الحكام الجدد مسؤولية القمع والتجاوزات الأمنية إلى الدولة ويدها التنفيذية أي الإدارة التي اتهمت بأبشع النعوت وقد تطلب الأمر أن يعود الرشد إلى أصحابه من خلال ممارسة السلطة ليتأكدوا أن الوظيفة العمومية هي صمام الأمان في بقاء الدولة في أحلك فترات انخرام الأمن وغياب السلطة السياسية من خلال تامين استمرار المرفق العام .وعرف القطاع للأسف سنوات من التجييش ضد الإدارة العمومية والموظف العمومي على وجه الخصوص كانت من ابرز نتائجها الحملات الإعلامية حول الامتيازات الخيالية للمسئول الإداري والحملات في وسائل التواصل الاجتماعي الممنهجة التي تقف وراءها بعض القوى السياسية التي تريد تركيع الإدارة من خلال التخويف .
وكان الفصل 96 أداة مبطنة لشل روح المبادرة بالإدارة العمومية وتعطيل دواليبها عبر تكبيل المسئول عن اتخاذ القرار الذي يعود إليه وتحمل مسؤوليتيه كاملة في ما يتخذه من قرارات.وزاد الوضع سوءا من خلال تسميات فترة ما بعد الثورة التي وبتعلة إقصاء المسؤولين في النظام السابق أقدم عديد الوزراء على القيام بتعيينات لا علاقة لها بالخبرة أو الكفاءة إلا الانتماء السياسي والولاء الأعمى مما أربك الإدارة وزاد في تكبيلها.
النظام السياسي يعمق أزمة الإدارة
أفرز ما صار يسمى بالنظام السياسي لمنظومة 2014 نظام حكم هجين شبه-شبه كما كان يحلو ليسار الجامعة التونسية ذكره في وصف النظام الطبقي شبه الرأسمالي شبه الإقطاعي. حيث لا يمكن توصيف نظام الحكم بأنه رئاسي أو بأنه برلماني صرف.
ومن نتائجه الكارثية عدم التمكن من إنتاج منظومة حكم قوية منسجمة من خلال وصول ـأغلبية برلمانية إلى الحكم وصارت الائتلافات الهشة هي قاعدة تشكيل الحكومات المتعاقبة وفق مبدأ المحاصصة الحزبية.
وقد أسهمت هذه المحاصصة في خلق مزيد من الضغط السلبي على الإدارة التونسية وخاصة على إطاراتها ومسؤوليها الذين أضحوا يعانون من تعاقب الحكومات بوتيرة متسارعة حيث أفرز عدم الاستقرار الحكومي بدوره مناخا من عدم الاستقرار الإداري .
وفي أحيان كثيرة يسرع الوزير المعين إلى إجراء تعديلات وتغييرات تمس المديرين العامين أحيانا قبل أن يطلع على أبرز الملفات الفنية أو على مصالح الوزارة ومهامها التفصيلية مما أثر بشكل لا لبس فيه على سير الإدارة وعلى أداء المسؤولين الإداريين.
وهذا يعد جزء من النتائج السلبية لنظام سياسي لا يمكنه بأي حال من الأحوال ضمان استقرار العمل الإداري وتحسين أداء المرفق العام.
ونحن هنا رغم تحميلنا النظام السياسي القائم جزء من مسؤولية الضغط المسلط على الإدارة وعلى أدائها فإننا لا ننزه الإدارة العمومية مما يعتريها من وهن وما تعرفه من نقائص أولها وليس آخرها البيروقراطية والارتشاء مع عدم التعميم إلا أنها في المقابل تنتظر من السياسيين إصلاحا حقيقيا وليس شعارات ثورجية براقة تصل إلى حد شيطنة الإدارة العمومية التي لا يمكن بأي حال أن تكون الشجرة التي تخفي فشل السياسات المتواترة وضعف خبرة التسيير لأغلب السياسيين ممن تحملوا حقائب وزارية.