قبل أن أتطرق إلى حديثي معكم اليوم، أود أن أشكر […]
قبل أن أتطرق إلى حديثي معكم اليوم، أود أن أشكر بادئ ذي بدء (كما يقول بعض من جماعة البرلمان) السيد الحقيقي هذه الأيام الذي يحكم العالم من المحيط إلى المحيط حيث انتشر وانتصر على القوى العظمى والصغرى والمتوسطة، وغزا شعوبا وقبائل لم يقدر عليها قبله لا اسكندر الأكبر ولا هتلر ولا نابليون، انه صاحب التاج الرفيع -عفوا- الجديد المستجد، الكروان –عفوا- الكورونا، هذا الذي منحني، بقدرة قادر وبعون كريم من أحد الأصدقاء، فرصة ثمينة للاطلاع على كتاب رائع لكاتب عظيم أحبه وأقدره بل أعتبره من أكبر كتاب هذا القرن. فأقبلت على قراءة هذا الكتاب صباحا مساء والتهامه نهارا وليلا، بنهم الجائع للهواء الطلق الذي لم يخرج منذ أكثر من أسبوعين احتراما لأوامر سيدنا صاحب التاج.
وفي انتظار أن أحدثكم يوما على مضمون هذا الكتاب، أردت أن اقرأ لكم – وفي الحقيقة أترجم لكم- صفحة منه لأني بعد قراءتها في نصها الأصلي في المرة الأولى لم أصدق عيني فأعدت قراءتها مرة ثانية وثالثة. وبعد أن حذفت من نصها بعض الكلمات ووضعت بدلا منها نقاطا بين قوسين حتى لا يتفطن الأذكياء منكم إلى صاحبها وموقعها، قررت أن أحيطكم بفحواها فها أنا ذا أفعل:
“الثورة ليست صنيعة هؤلاء الأشخاص، من السباقين أو الغزاة (…) وهي ليست اختراعا علميا أو تكنولوجيا، ولا قطعة فنية، ولا عملا ذهنيا. إنها قلب لأوضاع رأسا على عقب، وفكرة وانفجار جماعي. وقد تساءلنا كثيرا إن كان ممكنا تجنب وقوعها، وهو ما يذكّرنا (..) بقصة “بيانكا كابيللو” (التي تبرهن أن الإنسان يصنع التاريخ في كنف الحرية ولكن ما أن يوشك على الانتهاء من صنعه حتى يصبح ضرورة وأمرا مقضيا) أي بمعنى أن الثورة كانت ضرورة لا مناص منها بما أنها وقعت. فلم يكن هناك حل ثان لمسار التاريخ الجارف. ليس هناك بديل. في كل لحظة من التاريخ بما فيه من الشموخ والسفالة، من العدالة والغرور، من الحماسة والفزع، فان ما حدث قد حدث، ولم يكن له من الممكن ألاّ يحدث. لقد أتت الثورة من بعيد، لقد نضجت بعد أن تم إعدادها طويلا، وأضحت لا مفر منها (…) فانفجرت مثل القنبلة اليدوية.
لقد نزلت الثورة على حكم يمكن أن تصفه بكل شيء إلا أن يكون ديكتاتوريا. كان حكما ضعيفا ومتوسطا فاقد التماسك إلى حد الانعدام. كان فاقدا للأفكار والإرادة غير قادر على الارتقاء إلى مستوى الأحداث. كان عليه أن يذهب إلى أبعد من مستوى الإصلاحات وأن يتزعمها ويفرضها، وفي نفس الوقت يبرهن عن قوته. ولكنه قام بعكس ذلك تماما. تردد في إحداث التغيير وقبِل به عن مضض (…) ورضخ لواقع الفوضى، وللشتائم الموجهة للعائلة الحاكمة (…).
ومنذ البداية كانت السلطة، التي فقدت بصيرتها وبرهنت عن ضعفها، قد خسرت كل شيء. وبعد مرور عشر سنوات، ظهر رجل جديد من رحم الثورة يقبل ويشاطر ويضمن أفكارها وغزواتها، وبيّن بجلاء – في وضع ومناخ ربما أكثر كارثية من ذي قبل- ما كان يجب فعله وما لم يتم فعله منذ عشر سنوات. انه عسكري شاب بدرجة لواء وصديق لروبسبيار اسمه نابليون بونابارت (…).
ولكن بعد أن هجمت الثورة على خصومها، عادت فأكلت أبناءها. وهكذا أن تكون صانع الثورة يعني أن تصبح، في غالب الأحيان، ضحيتها إن عاجلا أو آجلا.”
هل ذهلتم مثلي… هذه الثورة بعيدة عنا جدا جدا بأكثر من قرنين ونصف… إنها الثورة الفرنسية. والكتاب الذي يتحدث عنها – كمحطة من ست محطات فاصلة في تاريخ البشرية- هو كتاب المؤرخ الفرنسي الكبير جان دورمسون الذي مات سنة 2017 بعد أن تقمص شخصية “التاريخ” في كتابه تحت عنوان ” وأنا، ما زلت على قيد الحياة”…