أدعي أني كنت من المُقرّبين، أو من العارفين بسلطة القرار بطريقة […]
أدعي أني كنت من المُقرّبين، أو من العارفين بسلطة القرار بطريقة مباشرة في احيان قليلة، وغير مباشرة في كثير اخرى منها، اثناء اغلب ردهات حكم الرئيس السابق ” زين العابدين بن علي” – يرحمه الله –
لقد اعتمد الرجل اسلوب ” معاوية بن ابي سفيان” رغم تواضع خلفيته السياسية والثقافية والدينية، حيث اجاب ذاك الأمويّ العبقري حين سألوه كيف استطعت ان تحكم كيمياء هذه الأمة لسنوات طويلة دون قلاقل تذكر.. فأجابهم في ضحكة دهائه بما معناه :
” الحكم بالنسبة لي مثل شَعْرة امدها بين الناس ، فان أرْخَوْا.. شَدَدْتُ ،، وان شَدٌوا أرْخَيْت”..
ثم انه ، ومن حسن حظه ، انه التصق باكرا ولسنوات متقطعة بالزعيم ” الحبيب بورقيبة” فأخذ منه ومن بطانته جوانب قليلة من اسلوبه في تدبر الحكم ومن باب تلك الحكمة : ” اطعمهم ، حتى يلتفت احد منهم اليك”..وزاد عليها بان اعطى لجهاز الامن خاصة صلوحيات رصد احوال الرعية سرا وجهرا، وعزل النخب المعارضة والمثقفة المؤثرة عن بقية القطيع..حيث ترك لهذا الاخير المجال فسيحا لتدبر امور عيشه وتحسين نمط حياته الاجتماعية من الجوانب كافة بصفة شرعية.. او بدونها طالما انه لا يحشر انفه في الشأن السياسي.. وعلى طريقة الذئب او تطبيقا لتلك الحكمة : من اليد.. الى الفم .. على الاقل.
اني اشير بالطبع الى الطبقة المتوسطة التي ظلت طيلة عهده في مأمن عن غول الغلاء والاستكراش والاحتكار والمضاربة والفساد واللعب بأرزاق الناس ، كما هي الحال اليوم.
فمنذ انقلاب نوفمبر 1987 .. لم يغير ” بن علي ” شيئا في الاسلوب الهرمي للحكم ومن تركة بورقيبة السياسية والاساسية المتمثلة في ارضاء تلك الشريحة من الشعب والحرص على توفير اسباب عيشه ، وتمكينه من مستلزماته الصحية والتعليمية في نطاق المعقول .. بل انه لم يسارع الى تحوير الدستور بطمّ طميمه، حيث لجأ الى تعديل فصول تُعدّ على الأصابع حتى تتلاءم مع ما كان يطمح اليه من الاستمرار في الحكم لأطول فترات ممكنة بطرق خبيثة ملتوية ومضحكة.. شانه في ذلك ..شان الوكلاء والحكام العرب.
ومع ذلك .. بقيت روح الدستور التونسي الذي اسس به بورقيبة الجمهورية الاولى.. ومن خلاله نجح في قيادة الشعب بيُسْر مجمل السنوات العشر الأولى بوجه ادق .. وتنفيذ جملة من الاصلاحات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية التي يشهد له بها العدو والصاحب من اهل الانصاف والموضوعية واعطاء قيصر ما لقيصر.
لكن الذي حدث بعد ” مُلْحة البَرْوِيطة” ان الذين انقضوا على المشهد سريعا والذين جاؤوا من آفاق اللصوص والحرائق ، والمرتزقة ومن اوكار القرامطة الجدد ، وحاملي سكاكين “بروتس” زورا ونفاقا وبهتانا.. اسرعوا الى الغاء دستورنا برمته، وبتعليمات من ماسكي قنديل ” الفارسي” وأولياء نعمتهم وشرفهم، ومن دكاكين الورّاقين الصفراء ..
لذلك..وبعد حكمهم لسنوات قليلة لم يحافظوا فيها على الموجود من بنية تحتية محترمة في كثير من جوانبها ومؤسساتها الاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية خاصة. فتداخلت وتعددت السلطات بلا معنى، وكثرت مزاريب وقنوات السرقة ونهب المال العام والسلب والتكسب اللامشروع بلا حساب. وانهار كل شيء من حولنا ومن فوق رؤوسنا.. وضاعت البقرة..والحليب ، ونهبوا خزائن الدولة ، ونشروا اليأس والحيرة والقهر ، والقوا بأغلبية تلك الطبقة الوسطى الى جحيم ” دانتي” بل الى المزابل وارصفة التسول والمرض والتهميش والرمال.. كل ذلك تحت لافتة أنياب الديمقراطية وسيوف حرية الراي والتعبير..
وهي كذبة وخديعة اشد مرارة ..وتغريبا واستبلاها ، واكثر ضحكا من ” حصان طروادة” وطواحين دون كيشوت” .. حتى ضاع الجمل بعائشة.. وزادوا عليه بَنَحْر علي.
قولوا لي .. اي دستور يحكم الصين ، وكم عدد أحزابهم ، ودكاكين صناعة الوهم عندهم .. هذا البلد الذي شعبه كالنمل .. والذي جنّن امريكا وقوى الرأسمالية والشر العظمى الاخرى..حيث استطاع بقدرات شعبه فقط ان يوقف عربات الموت المفاجئة المحدقة بشبابه ونسائه وشيوخه
ويصون شرفات العز فيه ..ويبدع وباسرع وقت ممكن وباخف الاضرار في اعادة صياغة الحياة والمجد والتاريخ بأسلوب الغابة والأنهار..
آه.. نسيت ان اقول لكم..انه حين سُئل ” ستالين” ذات مرة عن الدستور والانتخابات في بلدان” تشرشل” وما شابهه_ زمن الاتحاد السوفياتي_ ..اجابهم ضاحكا مطمئنا..”
– لا تصدّقوا الانتخابات..بل انتبهوا وصدقوا عَدّ الأصوات” ..
ثم آهٍ.. وآهات اخرى..لَوْ ذاتَ سوار لَطَمَتْنَ