بقلم: عبد الرؤوف بوفتح أتذكر، ومنذ سنوات، تمت دعوتي […]
بقلم: عبد الرؤوف بوفتح
أتذكر، ومنذ سنوات، تمت دعوتي ضمن لفيف من الشعراء، والكتاب، والصحفيين، إلى المشاركة عب، والحضور بفعاليات ندوة تنموية ثقافية بمقر ولاية سليانة، وبإشراف الوالي آنذاك محمد بن رجب، الذي تدرج بعد ذلك في سلم المسؤولية لرتبة وزير الداخلية.
كان الرجل قبل التحاقه على رأس ولاية سليانة، واليا على سيدي بوزيد، وقد شُهد له بالحزم، والمثابرة، والمتابعة الميدانية، وحتى الغلظة أحيانا في حضرة مرؤوسيه، والأهالي أيضا، واستطاع خلال سنوات معدودات أن يغير واقع سيدي بوزيد الاقتصادي والاجتماعي، والفلاحي بوجه أدق.. واستغل الخصوصية الجغرافية لتلك الجهة بأن استغل مائدتها المائية، وفجر في جل أنحائها، الآبار السطحية، والعميقة ومكن الفلاحين من الانكباب على إصلاح أراضيهم وتنويع طرق، وأشكال استغلالها، واستثمارها بدءا، بغراسة مختلف الأشجار التي لم تكن سائدة في أحراشها، وصولا إلى زراعة الخضر، وشتى الغلال، وتربية الحيوانات، وقد نجحت خطته الإصلاحية التنموية نجاحا لافتا، وصار مضرب أمثال العامة والخاصة وقتها عبر كل محافظات بلادنا.
المهم في الأمر، أنه ونحن نطل على مشارف ولاية سليانة، ونمعن النظر يمينا وشمالا في حقولها الخصبة الفاتنة الممتدة حتى خاصرة جبالها الساحرة ..لفت انتباهنا، وجود العديد من الجرافات، والجرارات الفلاحية، وهي تنهب في حركة حثيثة ، بعض الهضاب وأحراش الوديان ، وتزيل ما علق بها من حجارة الإهمال والانجراف، فكان انطباعنا لأول مرة، أن هذا الرجل هب منذ تعيينه إلى إصلاح ما أفسده السابقون، واتجه رأسا إلى العمل، والبذل بروح وطنية عالية.
انطلقت الندوة التي تخللها حماس كبير، وتداول على المصدح، أهل الاختصاص من مهندسين، ومستثمرين، واخصائيي التربة، والجيولوجيا، ومتحمسي قطاع الصناعة الفلاحية أو التحويلية، ولم يغب إلا أهل الرصد الجوي، وكان كل محاضر يخرج دلوه، فنتخيل أن الجنة صارت سليانة.
أخذت الكلمة وبدأتها قائلا: إن ولاية سليانة تبعد عن العاصمة مائة وعشرين كيلومترا. وهي بالتالي أقل مسافة من ولاية سوسة..وأن خيرات هذه الولاية، وما أنعمه الله عليها من قمح، وثوم، وعدس، وفستق، وقثاء، وتين، وزيتون وكل فاكهة وأباّ ..تكفي لإطعام ثلاث محافظات في جهة الساحل بما فيها جوهرته، سوسة.
ولماذا، سوسة، “نتربج” بها ونشير إليها بـ”الجوهرة” في حين، نتنهد، وينقص عمرنا، ويتملك صدورنا ووجوهنا الضيق واليأس، حين نتحدث عن سليانة.
قولي لي: أين ذهب عسلها، ولبنها وصباياها..؟
لم أكمل كلمتي، حتى انتفض السيد الوالي هائجا…
“عيب يا أستاذ ..وما دخل سوسة في مجال تظاهرتنا..؟
وبقدرة قادر،، وجدت المصدح في يد حسناء أخرى، تلقي شعرا عن “نَوَار” معذبة “الفرزدق”…
لم أصل بكلمتي وقتها إلى ظلم الساسة في بلادنا، للشمال الغربي، والوسط التونسي، وأعماق خارطتها الجغرافية.. والحيف التنموي الذي كان مسلطا على رقاب أهاليهم، بل وعدم التوازن الجهوي الذي مازال ينخر تلك الربوع..وحين عدت إلى غرفتي، حمدت الله أنها غرفة فندق “جاما أو زاما” موقع هزيمة حنبعل،، وليست غرفة في السجن..
بعد ثورة الصدفة، أو ثورة العربة دون حمار.. أختصر لكم أحلام ابن أبي الضياف، حيث أني أصيل بلدة “المنصورة” من ولاية سليانة، وأن طريقي إلى بلدتي تمر حتما عبرها في الذهاب والإياب..
وأن الإنجاز الذي شارف على الإنجاز هو ” مشروع مقبرة” على حافة الطريق الرابطة بين سليانة وجبل السرج، وقد استغرقت عملية التهيئة قرابة تسع سنوات تبرع بمالها، أهل البر والإحسان لدفن موتى “أولاد عون” ضمن جنازات خالصة الأجر.
قبل ذلك، بكى أهل سليانة بحرقة، وهو يولولون خلف جنازات أبنائهم الذين اقتنصهم الرش، بأمر أمير المؤمنين الخليفة السادس، ومازال العديد منهم يعاني أوجاع الحريق، والإعاقة، والحزن، والنكران…
وقتها، انتفض الأهالي، وغادروا مدينتهم يلفهم الغضب، وتلفحهم الرياح الباردة.
وقتها لم يتفطنوا إلى حكمة أحمد بن أبي الضياف الأبدية في كتابه ” الاتحاف” وكيف يسوس أهل الرياسة في بلادنا الهامش..حيث يقول:
“كان ..إذا حدثت انتفاضة في جهة الساحل (سوسة وما جاورها)، يرسل الباي إليهم مفاوضا يستمع إلى مطالبهم.
وحين ينتفض “أولاد عون” يرسل إليهم الباي “البُومبَه” (هكذا حرفيا..أي المدفع) لقتلهم عن بكرة أبيهم….
لم تتغير القاعدة، ولن يتغير الأسلوب أبدا يا سادتي..فلا تصدقوا حوافر البغال، وغبار الأحزاب…!