نشر حمة الهمامي، اليوم الجمعة، تدوينة على صفحته بموقع التواصل […]
نشر حمة الهمامي، اليوم الجمعة، تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك حول تطورات الحالة الصحية لزوجته راضية النصراوي وتحسن حالتها الصحية بعد أن وصلت إلى مرحلة غابت خلالها تماما عن الوجود.
وكتب حمة الهمامي:
راضية تعود من بعيد…
مرّ ما يزيد عن الشهرين على إقامة راضية بالمستشفى العسكري قصد العلاج… خلال هذه المدة عرفت حالة راضية الصحية هزات عنيفة. ولا أبالغ في شيء إذا قلت إنّ بعضنا ظنّ في لحظة من اللحظات، وتحديدا في آخر شهر أكتوبر وبداية شهر نوفمبر الماضيين، أنّها كانت تستعدّ إلى/ أو تعدّ لـ/الرّحيل الأبدي… قضّت حوالي 72 ساعة وهي، تقريبا، غائبة عن الوجود. كان الموت فاغرا فاه استعدادا لابتلاعها، بينما كان باب الحياة ينغلق وراءها رويدا رويدا…
ومع ذلك لا هي ولا أحد من المحيطين بها في تلك اللحظات الرّهيبة ألقى السلاح. كان الجميع يعتبر نفسه في معركة. والمعارك، الحقيقية، لا حلول وسطى فيها. فإمّا أن تربحها أو تخسرها. والحياة، وهي معركة المعارك، لا تخرج عن هذه القاعدة. إمّا أن تفتكّها، مرّة بعد مرّة، من مخالب الموت أو تضيع عنك إلى أبد الآبدين… إمّا أن تكون حقيقا بها أو لا تكون… إنّ انهيار المعنويات والاستسلام خاصّة في أوقات الشدائد، هما أقرب الطرق إلى العدم.
راضية امرأة استثنائية، قوية وعاشقة للحياة… كانت، وهي ممدّدة على فراشها، تبثّ في أعماقنا رسالة بأنها لن تستسلم للهزيمة… كنّا نقرأ ذلك في عينيها كلّما فتحتهما ووجّهت إلينا نظرة من نظراتها. كنّا نشعر وكأنها هي التي تأمرنا: “أن اصمدوا”…وكان الإطار الطبّي بمعارفه ومهاراته مندفعا إلى جانبها… وكنّا نحن، أحبّتها الكثيرون، حرّاسها العنيدين الذين يحمونها بحبّهم ويتمنّون لها الشفاء من عمق أعماقهم.
كتبت راضية قبل دخول المستشفى بيومين أو ثلاثة أيام متوجهة إلى التونسيات والتونسيين: “سأدخل المستشفى بعد أيّام وأنا أعرف أنني سأكون في حماية حبّكم…”. لم تخطئ راضية… إنّ الحبّ الذي غمرها به الناس أمر مدهش، لم نكن، نحن أفراد عائلتها وصديقاتها وأصدقائها المقرّبين، لنتخيّله في هذا الوقت الذي تُنفث فيه سموم الكراهية والحقد والتفرقة من أفواه ومن مناخير العديد، ممّن هم في أعلى السلّم، أو في أسفله..
وإذا كان من الممكن أن أنسى بعض تفاصيل تلك اللحظات الرهيبة التي عشناها فإنّني لن أنسى كيف كانت صغيرتنا، سارّة، تلتحم بجسد أمّها وتشدّه إليها وكأنني بها تريد أن تنفخ فيه من روحها أو تغذّيه من عروقها كي لا يذوي ويفترسه الفناء… كانت سارة مصمّمة على أن تبقى “ماما” على قيد الحياة… وكان تفكيرها متجها إلى شقيقتها الكبرى نادية التي لم تعد تفصلها عن الوضع سوى فترة قصيرة. كان كلّ حلم “سرّورة” أن تحضر “ماما” ميلاد أول حفيدة لها… صوفيا…
مرّ كلّ ذلك… “الغصرة بعد الغصرة”… خضعت راضية لعملية جراحية… ظلت لفترة عاجزة عن الحركة وحتى عن النطق بكلمة واحدة… خشينا في لحظة من اللحظات أن تظل عاجزة عن الوقوف والمشي… ورغم أنّ الآلام كانت تنهشها من كل جانب فقد كانت تقاوم.. كانت في أقصى الحالات تطلق زفرة طويلة… وتلقي علينا نظرة وتمدّ يدها لأحدنا كي تمسك بها وتضغط عليها بلطف…
يا للإنسان كم هو قادر على تحمّل الآلام…
وها هي راضية تعود اليوم من بعيد… طائر الفينيق ينبعث من جديد ليعلن أنّه “ابن الحياة”… مرّ شهران ونصف الشهر من الإقامة بالمستشفى… وها إنّ راضية تتحرك من جديد… تقدر على الوقوف… تمشي “شوية، شوية”… في هذا الصباح طلب منها الطبيب أن تمشي دون مساعدة فمشت أمتارا، مرفوعة الرأس، وهي تضع يديها في جيبي معطفها… راضية تنطق أيضا بعض الكلمات… تردّ أحيانا على بعض الأسئلة ولو باختصار شديد… تطلق ابتسامتها العريضة لزائراتها وزائريها… تمسك المجلة والكتاب وتتصفّحهما… تتابع بعض الأفلام والمسلسلات… وتضحك حين ترى بعض الوجوه على شاشات القنوات التونسية…
راضية تعود من بعيد… بعيد… بعيد…
الحياة تسري من جديد… قطرةً، قطرةً… في عروق راضية… بفضل عزيمتها ولكن أيضا بفضلكـ/م/ن يا كلّ الذين/اللواتي وقفتـ/م/ن إلى جانبها…
ما أحلى الحياة… حتّى لو كانت ممزوجة بالألم والمرارة…
ولكن أليس الألم والمرارة هما اللذان يعطيان الحياة طعما حلوا لأنّهما يجعلاننا نشعر بأننا جديرون بها… لأنّنا نقاوم من أجلها…
“على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”…
وكلّ عام وأنتـ/م/ن بألف ألف خير…
وتستمرّ المقاومة…
حمّه الهمامي
المستشفى العسكري
تونس في صبيحة يوم 31 ديسمبر 2021