“إرهاب الطريق”… توصيف مناسب جدا فهو تعبير مركّب يجمع بين […]
“إرهاب الطريق”… توصيف مناسب جدا فهو تعبير مركّب يجمع بين عنف قديم متواصل بدأ منذ أن صنع الإنسان عربة لا يجرها الحيوان بل تعتمد على ثلاثية أساسها سيارة وبشر يقودها وطريق يستعمله -إذا وضعنا بين قوسين المناخ السائد عند السياقة-من ناحية، وعنف قديم- جديد ومستحدث من ناحية أخرى وهو “الإرهاب” الذي يعني في عمومه استخدام عنف غير قانوني ضد المدنيين وقتلهم المتعمد، إذا وضعنا بين قوسين الغرض السياسي الذي يتضمنه التعريف الاممي للإرهاب.
وطبعا لن نتوه في تعريفات الإرهاب كما هو معلوم لدى فقهاء القانون (وقد نعود إلى ذلك في فرصة لاحقة) ولكن ما يهمّنا الآن هو مناخ الرعب والفزع الذي تفرزها فواجع الطرقات في العديد من جهاتنا والتي لا تقل – في بعض الحالات- فظاعة عما تثيره في النفوس أحداث الجرائم الإرهابية دون أن نستنقص من خطورة الإرهاب “الحقيقي”.
ومن هنا كانت عبارة “إرهاب الطريق” مستبطنة لمخاوفنا من هذا الغول الذي يأكل ضحاياه بمعدل يفوق 3 مواطنين كل يوم. ولكم أن تدركوا أن هذا الرقم اليومي الذي ذكرناه بخصوص “إرهاب الطريق” هو مجرد معدل إذ نقدم أحيانا القرابين لهذا الوحش الكاسر بنسبة أكبر، مثلما حصل يوم الثلاثاء الماضي 25 فيفري عندما وقعت فاجعة طريق بولعابة الرابطة بين القصرين وفوسانة حيث حصدت شاحنة ثقيلة سيارة المعلّمات الخمسة المتجهات نحو المدرسة لأداء الواجب المهني فلم تترك من السيارة ومن فيها إلا أثرا بعد عين.
ودون الخوض في أسباب هذا الحادث الأليم، فان الذي لا شك فيه أن العائلات المنكوبة خسرت بنات وأمهات وأخوات كن مورد رزق لها وتركن وراءهن أيتاما ليس فقط في الأُسَر وإنما أيضا في المدارس لان التلاميذ الذين فقدوا معلماتهم فقدوا في الحقيقة مربّيات ساهرات على تربيتهم. وفقدت مدارسهم عناصر فاعلة في مكافحة الأمية وفي نحت جيل متعلم قادر على مواجهة ضنك الحياة في قرى ما زالت تحلم بالتنمية وكرامة العيش.
هذا مجرد مثال شنيع لما تعيشه طرقاتنا في كامل ولايات الجمهورية من حوادث تقشعر لها الأبدان علما أن الإحصائيات المبدئية للمرصد الوطني للمرور سجلت وفاة 187 شخصا منذ بداية هذه السنة والى غاية يوم 25 فيفري الجاري أي بزيادة 16.1 بالمائة عن نفس الفترة من السنة الماضية 2019 التي شهدت في الجملة 5972 حادثا أسفرت عن 1150 قتيلا و8574 جريحا. والسبب الأول في الحوادث القاتلة هي السرعة التي تأتي بنسبة 31.8 بالمائة. وبمناسبة الحديث عن فاجعة طريق بولعابة، فان تلك الإحصائيات سجلت ولاية القصرين في المرتبة الرابعة أي مباشرة بعد تونس وبن عروس ونابل.
طبعا، بالنظر إلى هذه الأرقام، فلا مقارنة مع هواجسنا الحالية من مخاطر فيروس “الكورونا” عفانا الله منه، ولا حتى مع ضحايا الإرهاب الآخر الذي باتت قواتنا الأمنية والعسكرية البطلة قادرة على حماية المجتمع منه واستباق فواجعه وتكبيد الخسائر للعدو. ولنا في الكمين الأخير الذي نجحت فيه هذه الايام بجبل السلوم خير دليل.
وإذا كان لابد من إشارة تعيد لنا قليلا من الأمل وذرة من الطمأنينة، فان العودة إلى إحصائيات المرور عشرين سنة خلت تفيد بأنه رغم تزايد عدد السكان والأسطول وتطور الحركة التنموية والسياحية فان حوادث السنة الماضية أسفرت عن نقص بـ 180 قتيل بالمقارنة مع ضحايا عام 1998.
ومع ذلك فأن حوادث الطرقات تبقى ظاهرة خطيرة جدا بحكم انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية مما يقتضي مزيدا من تحسين النتائج. ونعتقد اليوم أن المقاربة الموضوعية لسلامة المرور لا بد أن تعتمد على 3 مراحل قبل الحادث وأثناء وقوعه وبعده.
فلابد قبل الحادث من التركيز على عناصر لها دور أساسي في كسب رهان الوقاية.
أولا على مستوى الطريق حيث من الضروري صيانة وتدعيم وتطوير البنية الأساسية من المحولات والجسور والطرقات والمسالك، ولابد من التقدم في ضبط ومعالجة كل النقاط السوداء.
وثانيا على مستوى وسائل النقل من خلال تكثيف الجهود في مجال تطوير النقل العمومي وتجديد الأسطول الخاص سواء على صعيد السيارات الشعبية ونظام الإعفاءات بالنسبة للجالية المهاجرة أو من خلال توفير كافة الضمانات لوسيلة النقل من حيث الفحص الفني والحزم في معاقبة المخالفين لمجلة الطرقات.
وثالثا على مستوى السائق والمترجل، حيث لا يكفي وعي هياكل الدولة والمجتمع المدني بخطورة حوادث الطرقات إذا لم يرافقه عمليا وبنفس النسق وعي لدى مستعمل الطريق كان سائقا أو مترجلا. وهو ما يتطلب مزيدا من الجهد وتنويع وتكثيف آليات العمل في المجال الجمعياتي والإعلامي والتربوي والثقافي.
أما أثناء وقوع الحادث، فانه لا بد من مواصلة الجهود المبذولة لتطوير الإسعاف ولا سيما من خلال الخطط المتكاملة للنهوض بقطاع الطب الإستعجالي وكذلك من خلال التدابير المتخذة من قبل الديوان الوطني للحماية المدنية للاستجابة لطلبات النجدة بتعزيز أسطول التدخل وتكثيف مراكز الإسعاف والتركيز على جهود التكوين الموجه إلى مختلف شرائح المجتمع.
ويبقى المجال واسعا لمزيد التقدم في سرعة الإعلام والتدخل وإحكام التنسيق بين الأطراف المعنية ومواصلة عملية انتداب المتطوعين وتكوينهم. وأخيرا على مستوى ما بعد وقوع الحادث، فانه من الضروري تعميق الدراسات والتحليل العلمي وتوسيع الاستشارة بهدف تطوير سبل معالجة هذه الظاهرة التي لن تتوقف طالما هناك حاجة للنقل والتنقل، وهو ما يقتضي في نظرنا على مستوى الإعلام المروري التشهير بالمخالفات مهما كانت درجة خطورتها عندما نعلم أن حوالي ثلثي الحوادث سببها شق الطريق والسهو والسرعة… ولكن متى كنا قادرين على التشهير بالمخالفين…أيا كان نوعهم ومجال نشاطهم؟ فلنعتمد على الأقل، على الدروس والعبر بتكريم أرواح ضحايا الطريق وإطلاق تسمية “مدرسة المعلمات الخمس” على مدرسة وادي الرشح بـالقصرين.. وذلك أضعف الإيمان..