بقلم: علي الجليطي هناك من المواضيع التي أشفق على نفسي […]
بقلم: علي الجليطي
هناك من المواضيع التي أشفق على نفسي وعلى القراء من الكتابة فيها والتأمل بين سطورها… لا خوفا منها ومن الخوض فيها أو تجنبا لمحرمات لا مفر من السكوت عنها وإنما توجسا من مزيد تسطيحها وتبسيط خطرها والمساهمة من حيث لا ندري في نشرها وربما إعلاء الفاعلين فيها إلى منزلة الأبطال التي لا يستحقونها.
من هذه المواضيع جريمة “الاغتصاب” التي جرني إليها غصبا ذاك الحديث المتواتر عن بشر تحكمهم غريزة الحيوان ويعيثون فسادا في ساحة الجهل وزمن “الفتوّة” العاهرة باعتدائهم جنسيا على تلك الصبية التلميذة التي لا يتجاوز عمرها 15 ربيعا والتي تعرضت لعملية بشعة في جبل السرس بالكاف من قبل أربعة مراهقين أكبرهم بلغ 19 سنة وتراوح عمر البقية بين 14 و11 سنة وإقدامهم بكل جرأة لا بل بكل صفاقة وانحطاط على تنفيذ جريمة ثانية تمثلت في تصوير عملية اغتصابها وابتزازها ونشر جريمتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لنبدأ قبل شيء بشكر وحدات الأمن والحرس الوطني التي نجحت في إيقاف المظنون فيهم. ورغم أن الأبحاث الأولية تفيد بان عملية المواقعة قد تكون تمت برضا المعنية بالأمر إلا أن أحكام قانون مكافحة العنف ضد المرأة (قانون أساسي عدد 58 لسنة 2017 المؤرخ في 11 أوت 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. لفصل 227 جديد) يعاقب مرتكب جريمة الاغتصاب بالسجن مدة عشرين عاما. ويعتبر الرضا مفقودا إذا كان سن الضحية دون الـسادسة عشر عاما كاملة. وهو الحاصل في قضية الحال. ونشكر ثانيا عائلة الضحية والمتضررة التي لم ترضخ للابتزاز ولم تتردد في إبلاغ السلط الأمنية وفي تقديم شكاية في الغرض رغم ما ينجر عن مثل هذه الجرائم من شعور بالاهانة والعار بسبب انتهاكها لحرمة الجسد ومسّها بشرف الأسرة وكرامتها. ولا شك أن ذلك هو ما تسبب في الوعكة الصحية التي أصابت والد الضحية الذي لم يقدر على تحمل هول مثل هذه الفاجعة.
وليس من قبيل المبالغة القول بان هذا الجريمة هي من أخطر الممارسات التي تقترف في حق الضحية ليس فقط لأنها أنثى وإنما أيضا لأنها قاصرة وتزداد العملية بشاعة عندما تقترن بجريمة الابتزاز ثم تتضاعف خطورتها بترويجها على العموم إذ يمنع القانون المشار إليه أعلاه بث المواد الإعلامية التي تحتوي على صور نمطية أو مشاهد أو أقوال أو أفعال مسيئة لصورة المرأة أو المكرّسة للعنف المسلط عليها أو المقلّلة من خطورته، وذلك بكل الوسائل والوسائط الإعلامية. وهكذا فان ما أصاب الضحية وأسرتها من ضرر معنوي ومادي، ستضاف إليه مبادرة المظنون فيهم بنشر مقطع فيديو الاغتصاب على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي “الفايسبوك ” و”تويتر” وبالتالي انتشاره كالنار في الهشيم بما يمثله ذلك من انتهاك لحرمة المتضررة وعائلتها فضلا عن الإساءة للمجتمع التونسي والمس من صورة البلاد بشكل عام. وقد تولت السلط المعنية إيقاف ترويج المقطع. ولا يُغتفر للمجرمين انحرافهم بالقيام بالعملية تحت تأثير المخدرات، لا بل يزيدون طينهم بلة بالإقدام على تخدير ضحيتهم فالقانون يعاقب بالسجن بقية العمر مرتكب جريمة الاغتصاب الواقعة – 1 باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به، أو باستعمال مواد أو أقراص أو أدوية مخدرة أو مخدرات – 2 ضد طفل ذكرا كان أو أنثى سنه دون السادسة عشرة عاما كاملة.
بعد كل هذا، هل أخذ الموضوع حظه من التفكير والتحليل؟ هل يكفي أن يتهافت الجميع على الاستنكار والتنديد؟ هل قامت الدولة والمجتمع والاسرة بما يضمن التوقي واستباق هذا النوع من الانحراف وغيره؟ أين الواقع من النصوص القانونية؟ أين الحقيقة من خيال الحالمين بثورة الشباب وشباب الثورة؟ التواضع يفرض الاعتراف ببعد المسافة بين الواقع والطموح. صحيح تابعنا ونتابع بكل اعتزاز صمود الجهاز الأمني واسترجاع مقوماته الأساسية رغم التضحيات التي يقدمها كل يوم ورغم حرص الكثيرين على بسط نفوذهم عليه وافتكاك قطعة منه وكأنه غنيمة من جملة الغنائم. وصحيح تابعنا بكل اهتمام صولات السيد ناجي جلول وهو يعلن “مُخرجات” (هذه ليست من عندي) الإصلاح التربوي وانعكاساته المرجوة على شبابنا، وجولات خلفه السيد حاتم بن سالم وهو يكافح تحت قبة البرلمان وخارجها ضد المشككين ومُحبطي العزائم… ويسعى مع السيدة العبيدي وغيرها من المكافحات من اجل حماية الناشئة التونسية وإنقاذها من ظلامية المحتشدات التي انتشرت في البلاد لتعليم “الجهاد” في سبيل الضلال. وصحيح طالعنا عددا من القوانين والتشريعات التي تنظّر للوقاية والحماية وإسعاف المنحرفين وإنقاذهم من مغبة السقوط في متاهات الجريمة والتي تفرض على الدولة اتخاذ كل التدابير الكفيلة بوقاية المرأة والطفولة من العنف… “بوضع برامج تعليمية وتربوية وثقافية وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والتثقيف الصحي والجنسي”.
ولكن أول محاولة جدية لترسيخ التربية الجنسية في المدارس على سبيل المثال قوبلت بموجة من الاستهجان والتنديد والاستنكار لغرض مبيّت في نفس يعقوب أو لجهل واضح بمقاصد التشريع وسبل التنفيذ، تماما كما قوبلت أول الأمر وبنفس الحدة عملية كشف وغلق تلك “المدارس القرآنية” التي اختصت في مجال استغلال الطفولة ونشر تعاليم “النكاح والجهاد” بدلا من تعاليم ديننا السمحة. ومن المضحكات المبكيات الأخرى أن استمع إلى مراسل إحدى الإذاعات وهو يروي قصة اغتصاب تلميذة مدرسة الكاف وكيف أنها انطلقت بمطاردة الضحية قبل صيدها في بناية مهجورة قرب المدرسة يؤمها التلاميذ لقضاء أوقات فراغهم وان هذه البناية هي دار ثقافة مهجورة (هكذا). ولا فائدة هنا من صخب الحديث عن محيط المدارس والمعاهد الذي يستقطب مروجي المخدرات، ولا على الوسائط والوسائل الإعلامية التي يدمن عليها الكبار والصغار والتي تبث للمستهلك الغث والسمين ولكن من له القدرة على التمييز بين البذرة والقشرة؟ وليس بعيدا عنا، اتضح في دراسة مصرية أن كتب الأطفال التي تُباع على الأرصفة تضم قصصا جنسية وتعذيبا وكراهية وتدعو للتعصب والإرهاب والعنف، مما يقتضي من الأسر الحذر من المضامين التي تقدم للأطفال بسبب المخاطر الناجمة عن غرس تلك الأفكار في عقول الصغار. والله يعلم كم يتسلل من كتاب مشبوه للكبار والصغار في مكتباتنا ومعارضنا الرسمية وغير الرسمية رغم ما توليه الهيئات المسؤولة من حرص وحذر شديدين في هذا الشأن.
بلادنا في الحقيقة لا تنقصها التحاليل والدراسات والتشريعات التي يعود الكثير منها إلى عهد الاستقلال وما بعده، ولكن ينقصها دوام الإرادة السياسية الحاسمة وصلابة العود القضائي الذي لا يلين، وتوسع رقعة المجتمع الواعي الذي لا ينافق ولا يغالط ولا يجري وراء الشهوات والغرائز في السر ويلعنها ويستحي منها في العلن …مجتمع فُك من عقاله بعد سنة 2011 فبات السياسيون معنيون بالكراسي فقط، وأضحت هموم المجتمع من آخر أولوياتهم، وشعارات الثورة في مهب الريح، والإصلاحات نائمة في رفوف الإدارة ، وصارت الجريمة التي كانت تقترف دون علم احد مباحة على قارعة الوسائط الاجتماعية ووسائل الاتصال الجماهيري، وطغت حرية الكلمة والصورة على قدسية الحرمات و تفشت حرية الفعل بين الحلال والحرام.
هل سأل كل واحد منا ماذا يفعل وكيف يتصرف لو كانت تلك الصبية الضحية أخته أو ابنته أو قرينته؟ ومن منا يعلم انه من واجب كل شخص (بمن في ذلك الخاضعين للسر المهني) إشعار مندوب حماية الطفولة كلّما تبيّن أن هناك ما يهدّد صحة الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية (أو الاتصال على الرقم الأخضر 1899)؟ …طبعا ليس ممكنا أن يكون مجتمعنا من الملائكة… ولكن أن يبقى كل واحد منا متفرجا على الربوة كما يقال مرددا في قرارة نفسه أن هذه الحوادث لا تصيب إلا الآخرين وكأنه وأسرته ملقحين ومحصنين ضدها … وأن نظل مكتوفي الأيدي وكان شيئا لم يكن أو نكتفي بمعاقبة المجرم والإحاطة النفسية بالمتضرر، فالأكيد أننا لن نعود إلى قواعدنا سالمين.
فقد أثبتت الأرقام المتعلقة بقضايا الاغتصاب المعلنة في التقرير الوطني حول مقاومة العنف ضد المرأة سنة بعد المصادقة على قانون 2017 حصول عملية “اعتداء جنسي” واحدة كل 3 ساعات كما تشير مداولات اليوم الدراسي بمجلس النواب يوم 7 مارس 2018 إلى حصول معدل عملية اغتصاب كل نصف ساعة جلّها في المدن الكبرى. وقد استأنسنا بهذه المعطيات المنشورة في غياب معلومات رسمية محيّنة. ولكن هذا الرقم الذي يعتمد على الشكايات المسجلة يؤخذ بحذر لان العدد الحقيقي لعمليات الاغتصاب يجب أن يضم أيضا ما يسمى الرقم الأسود الذي يظل مخفيا بسبب عدم تسجيل تلك العمليات من قبل الضحايا ويبقى بالتالي عددها مجهولاّ وخارج جدول القضايا العدلية. وقد لاحظت وزيرة المرأة وجود عقلية رافضة في بعض الأحيان تسجيل شكايات تتعلق بالعنف ضد المرأة بدعوى “الحفاظ على تماسك الأسرة”. ونضيف بالخصوص عدم مبادرة الضحايا بالإبلاغ بما وقع لهن خشية وصمة العار والفضيحة، مع بقاء تلك هذه الانتهاكات دون عقاب بطبيعة الحال.
ولا شك إننا لم نصل بعد إلى نسبة مثل هذه الفواجع التي تبلغ في فرنسا مثلا مستويات مفزعة حيث تسجل عملية اغتصاب كل سبع دقائق وفي الهند كل 15 دقيقة، ولكننا نقتسم حضور هذه الظاهرة مع بقية العالم حيث ذكرت منظمة الأمم المتحدة أن “العنف ضد النساء والفتيات هو أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارا واستمرارا وتدميرا في عالمنا اليوم”.
فهل حزمنا أمرنا؟ وسعينا إلى ما فيه صلاح مجتمعنا؟ بعيدا عن غفلة الراعي… وتقصير الرعية؟