بقلم: علي الجليطي تعيش الساحة السياسية الفرنسية هذه الأيام على […]
بقلم: علي الجليطي
تعيش الساحة السياسية الفرنسية هذه الأيام على وقع حادثة ذات صبغة أخلاقية/ إعلامية/ سياسية، أقل ما يقال فيها أنها محطة جديدة على درب التداخل بين وسائل التواصل الاجتماعي والتدافع السياسي للوصول إلى السلطة، وتعبير جديد عن اشتداد الصراع بين الأخلاق والمصالح فيما بين الأحزاب السياسية نفسها على حساب الصراع الفكري والإيديولوجي والبرامجي. فما هي أبعاد هذا الصراع ومدى مساهمته في انكماش الثقة بين الناخب والنخبة السياسية؟ وما هي تداعيات هذا الانحراف على الديمقراطية باعتبارها صمام الأمان للمنظومة السياسية؟.
بادئ ذي بدء، ماذا في وقائع القضية؟ هي عملية خطيرة تلك التي وقعت في فرنسا خلال الأيام الماضية والتي ذهب ضحيتها الناطق الرسمي للحكومة الفرنسية “بنيامين قريفو” مرشح الرئيس ماكرون لانتخابات بلدية باريس. لقد سقط الوزير المسكين في فخ شبكة التواصل الاجتماعي بعد أن بثّ للعموم لاجئ سياسي روسي في باريس مقاطع فيديو مصورة ذات طابع جنسي جرت بين فتاة وهذا الوزير وهي إحدى الشابات التي اتضح فيما بعد أنها طالبة في الحقوق بباريس ورفيقة للاجئ الروسي منذ حوالي سنة. وتفيد وسائل الإعلام الفرنسية التي غطت الموضوع بكثافة أن القائم بعملية النشر كان يهدف من ورائها حسب قوله “فضح النفاق لدى هذا السياسي الذي ما انفك يتشدق بالقيم العائلية والذي يريد أن يصبح رئيس بلدية لعائلات مثالية فيما هو يفعل نقيض ذلك تماما.”
طبعا السلطات الفرنسية ألقت القبض على ناشر الفيديو ورفيقته بغرض التحقيق معهما بتهمة “المس من حرمة الحياة الخاصة” و”نشر كلام أو صور مسجلة ذات طابع جنسي بدون موافقة المعني بالأمر”. وطبعا تتالت تصريحات التنديد والاستنكار من عموم الطبقة السياسية الفرنسية لتُجمع على أن ما أقدم عليه هذا الرجل – حينما انتهك الحياة الخاصة للوزير- يعدّ انحدارا بالمشهد السياسي إلى أسفل المراتب. بل وذهب البعض إلى حد التشكيك في تفرّد المتهم بمسؤولية ما فعل، وما يقتضيه ذلك من ضرورة النظر إلى ما وراء الأكمة، بل وحتى إعادة النظر فيما يتمتع به الفاعل من امتياز قانون اللجوء السياسي.
وماذا كان يُنتظر من هؤلاء السياسيين؟ هل كان بإمكانهم غير التعاطف مع الوزير- الضحية وهو الذي سارع بتقديم استقالته والانسحاب من السباق الانتخابي مفضلا الهروب من ساحة الفضيحة والعار ربما اعترافا منه بصورة غير مباشرة بصحة الوقائع أو تمهيدا لمواجهة خصمه على الساحة القضائية. وقد قال عنه محامي الوزير “انه لم ير في حياته شخصية مدعاة للسخرية أكثر من هذا (الخصم المتهم) وانه أمام عملية افتراء مطلق يتصرف فيها أشباه فنانين وكأنهم في نظام ديكتاتوري بإعطاء دروس في الأخلاق للآخرين”.
وهنا مربط الفرس. الأخلاق؟ وما أدراك ما الأخلاق…هل هي المحرك الرئيسي للمتهمَيْن؟ هل تصرفا فعلا بدافع صيانة الأخلاق وفضح السياسيين المنافقين؟ هل الفاعل بريء من تهمة «الارتزاق” لأطراف داخلية أو خارجية؟ ما الفائدة من استعمال سلاح فتاك كسلاح شبكة التواصل الاجتماعي الذي لا يفرق بين الحياة الخاصة للناس وحياتهم العامة؟ أين هي حدود العمل السياسي وحدود الصراع بين الفرقاء على الساحة السياسية؟ هل أن السياسة مبنية على الأخلاق والقيم السمحة أم أن المصلحة الخاصة والسباق نحو السلطة يبيح كل شيء بما ذلك ضرب الخصوم تحت الحزام؟ هل الغاية تبرر الوسيلة على طريقة ماكيافيل؟.
وفي المقابل، هل أن السياسيين هم فعلا حُماة للأخلاق ومجنّدون لخدمة الصالح العام وأبرياء- أتقياء ومعصومون من الخطأ ولا يرغبون إلا في الارتقاء بالمجتمع البسيط إلى مراتب عليا حيث تنتشر الفضيلة وتنتفي الرذيلة؟ هل يحكمون ضمائرهم قبل مباشرة العمل السياسي أم تهزهم غرائزهم إلى ما تشتهيه أنفسهم؟ وفي النهاية هل نحن في جمهورية أفلاطون الفاضلة والمثالية؟ أم نتعامل مع بشر يخطئون ويصيبون؟.
طبعا لا نعتقد أن المتهميْن بانتهاك الحياة الخاصة للوزير الفرنسي هما ساذجان إلى درجة البحث عن سياسي من جنس الملائكة… لا بل فالمعطيات تفيد بان الفتاة ذات معرفة ومدارك سياسية عالية وربما تحركها ميولات عقائدية تنبذ المنظومة السياسية القائمة، ولكن لا نعلم هل أن رفيقها تصرف بمحض إرادته أم كان مجرد بيدق في لعبة أكبر منه… ومن جهة أخرى، لا نعلم إن كان الناخبون تهمهم فقط أفكار السياسيين وبرامجهم التي تأتي بالحلول اللازمة لمشاكل المجتمع…أم هم فعلا يبحثون عما تحت جلابيب هؤلاء السياسيين ومتقبّلون إذن لمثل هذه الأفعال المشينة التي لجأ إليها المتهمان لأنهم يحلمون بقيادات مثالية نظيفة وطاهرة في الظاهر والباطن، في السر والعلن ؟ وبالتالي من الممكن استعمال كل الوسائل لمعرفة حقيقة السياسي دون أقنعة تغطي سلوكياته حتى وان كان ذلك على حساب “تعرية” شخصه وكشف عرضه وانتهاك شرف أسرته؟.
المعروف عادة في الغرب أن السياسة عامة وحَمْلة السباق نحو السلطة خاصة لا تعترف بالقواعد الأخلاقية والضوابط الإنسانية فكل الوسائل صالحة لتدمير الخصم والقضاء عليه سياسيا. وكثيرا ما وردت أخبار تفيد بتوزيع صور فاضحة لهذه الشخصية أو تلك ونشر قصص حول علاقات خنائية مثلما ما جرى للرئيس الأمريكي ترامب الذي نجا من ورطته بفضل تفاهمات مالية قبل النزول إلى حلبة الصراع الانتخابي. ومثلما اتضح من علاقة خارج إطار الزواج للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران لم يتم الكشف عنها إلا في أخر حياته رغم أن الأمر كان معلوما لدى الصحافة منذ زمن بعيد بعدما حافظ الجميع على هذا السر حفاظا على حرمة الرجل وكرامة زوجته. وربما لو عاش في زمن الفايسبوك لكان أمره مفضوحا منذ يومه الأول. ولا ننسى ما جرى بفضل – أو بسبب- صحافة الاستقصاء (وكذلك صحافة المجاري) من كشف للعلاقات النسائية المريبة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وكذلك معاناة زعيم اليمين فرنسوا فيون بسبب حملة مسعورة في السباق الرئاسي الأخير حيث اضطر بعدها للانسحاب يجر أذيال الخيبة حتى وان لم تكن الشبهات ذات طابع جنسي بل تدخل في إطار الفساد المالي والسياسي.
كل هذا يجري في الديمقراطيات الغربية بما يدل على المواقف الحاسمة من سلوكيات السياسي، فالضوابط الأخلاقية باتت أمرا ضروريا لا مفر منه لمن يريد البلوغ إلى السلطة ولكن المفارقة هو أن هذه الضوابط والحواجز الأخلاقية قد يتم تجاوزها من الطرف المقابل باستعمال وسائل دنيئة غير مشروعة لمعرفة ما إذا كان السياسي المقصود نظيفا وطاهرا أخلاقيا. وبعبارة أخرى هل أن النخبة السياسية باتت مدركة أن الناخب حريص على مثالية المرشح السياسي؟ فكلما كانت خطيئته مستورة فهو مقبول ومحبوب لدى الجماهير أما أن تظهر للعلن ويتم نشرها بين الناس ويتضح كذبه للجميع فتلك هي بداية الهزيمة وفشله في جلب الناخبين. فصورة المنتخب المطلوبة أضحت من صورة سلوكه الظاهر وممارساته الخفية. وكلما احتد التناقض بين السر والعلن اهتزت الصورة في مخيلة الناخب وفي ذهنه وانعكست على قراره الانتخابي. لذلك بدت الديمقراطيات الغربية مبنية أكثر من أي وقت مضى على الصورة والسلوك ربما قبل الفكر والبرنامج. فالمرشح الفاسد أخلاقيا يفشل حتى وان كان برنامجه مغريا.
هل هذا يعتبر من المخاطر التي تهدد الديمقراطية أم بالعكس يعزز بنيتها؟ الأمر يحتاج إلى تأمل لمعرفة ما إذا كان من المشروع محاربة الخصم بكل سلاح بما في ذلك ما لا يخضع لضوابط شرعية وأخلاقية؟ وهل من المفيد تغليب الأخلاق على الأفكار أم العكس أو العمل بهما معا؟ يبدو أن الطريق الأسلم يتمثل في الإيمان بأن السياسة في بعدها السامي والراقي هي معالجة الشأن العام مع حفظ الذمم والأعراض والنأي بها عن هتك الحرمات ونبذ ما ينشر من افتراءات وأكاذيب على شبكة التواصل الاجتماعي، وبالتالي رفض إباحة الأساليب غير الأخلاقية التي يلجأ إليها البعض بدعوى حماية المثل والقيم الأخلاقية التي نصبو إليها، والسعي إلى تغليب منطق القانون الشرعي على منطق قانون الغاب، وهو ما يعني الحرص من الجميع على تحكيم القضاء في كل ما يظهر من شبهات دون حيف أو إجحاف أو انتقاء. لان الفيصل بين الجميع يبقى أولا وأخيرا القضاء العادل.
تلك هي التساؤلات وربما العبر من مثل هذه الأحداث التي تجري في ديمقراطيات سبقتنا بعشرات السنين. ومن باب أولى وأحرى أن تتعض ديمقراطيتنا الهشة من هذه الدروس كي تحقق انتقالها في مناخ سليم يحترم القانون ويؤسس لبناء سياسي قاعدته حماية الأخلاق فعلا ولكن أيضا التركيز على المبادئ والأفكار والبرامج التي تهتم بهموم الناس، بدلا من تجنيد “الجيش السيبارناتي” للبحث في خصائص الخصوم وتشويههم بدون حجة أو دليل وقرينة ثابتة. والأكيد أن إعادة الثقة بين الناخب والسياسي لا يمكن تحقيقها إلا على أساس احترام هذا الأخير من قبل ناخبيه، ولكن كي يحظى هذا السياسي بالثقة والاحترام من واجبه أن يتحلى بالحد الأدنى من القيم الأخلاقية التي يدعي الدفاع عنها ليس فقط في برنامجه بل وبالخصوص في الصورة التي يعطيها للناخب من خلال سلوكه في الظاهر والباطن.
ولكن لسائل أن يقول: أية قيم أخلاقية؟ أخلاقنا أم أخلاقهم؟ تلك قضية أخرى فللحديث بقية.