بقلم: عبد الرؤوف بوفتح اشتغلت لفترة بالسودان، وقبل التحاقي بعملي، […]
بقلم: عبد الرؤوف بوفتح
اشتغلت لفترة بالسودان، وقبل التحاقي بعملي، اتصلت بسفيرنا هناك مستفسرا اياه عن بعض التفاصيل الحياتية البسيطة وتموجات الطقس وما الى ذلك من الامور اللوجستية السلميّة طبعا والتي لا تستحق حقائب سفر.. فأخبرني ان كل شيء مناسب للحياة، مؤكدا في نفس الوقت على ضرورة اجراء تلقيح بمعهد ” باستور” ضد ” المالاريا” عافاكم الله.
وصلت الخرطوم، كنت فرحا مثل ” كريستوف كولمب”، لكن دون مراكب وبوصلة وضجيج القراصنة، ودون خطا في جهة الشرق والجغرافيا..
وانا في طريقي الى مقر سفارتنا، كان السائق لا يسكت وهو يسالني عن تونس وأهلها، وحتى عن بعض شوارعها وحدائقها ،، وقد اخذ منه الحنين الى الديار مأخذ ” المعتمد بن عبّاد” وهو في الأسر.. غير أني كنت ارد عليه بكلمة او ابتسامة ماكرة بعد ثلاث او اربع جمل يرددها، لأني لا احب اللغو كثيرا بطبيعتي.. ثم انني كنت منشغلا بالنظر عبر نافذة السيارة الى شوارع الخرطوم وبعض معالمها وعماراتها .. وهي اشبه بمدننا التونسية في الجنوب من حيث طريقة بنائها، وما يلفها من مسحة غيم وحرارة، وما ينتشر في أرجائها من خضرة وروائح النيل الازرق والابيض.
انها تداعيات تستلفتني غصبا، وانا كنت أرغب في التحدث عن آفة ” الملاريا” التي ما تزال تضرب السودان الجميل، والعمق الافريقي الاستوائي خاصة وما جاوره من بلدان.
هذا المرض القاتل الذي يحصد الملايين من القتلى في تلك الدول كل عام.
وخلال الشهر الأول من وجودي هناك، كنت ارى الكثير من الناس من الجنسين ومن كل الفئات العمرية والشرائح، يجلسون في استرخاء وإجهاد شديدين تحت الاشجار، والجدران.. وعلى الكراسي داخل بعض مؤسسات العمل والإدارات.. وكنت اعتقدت أن هؤلاء الناس..غلب عليهم الكسل ولا قيمة عندهم للكد والعمل والانصراف الى تنمية جوانب حياتهم الاجتماعية التي تشكو بطبيعتها خللا واضحا..وتراهم يستحضرون النكتة ، واشاعة الفرح الفقير بينهم في كل موضع وحين..ولا غرابة فالسودانيون طيبون جدا.. ومثقفون جدا.. ومع ذلك فهم نبلاء وكرماء في متناول كل الايدي كالمياه..
لكن اعتقادي كان فيه الكثير من الخط ، والحكم المسبق والتسرع أيضا..حين أدركت بعد احتكاكي بالبعض منهم .. ان مرض ” الملاريا” هو الذي فعل فعلته في اجسادهم، وعطل الحركة فيها..وأن الذين يصابون بلسعة ” انثى الناموس” الناقلة للمرض، والناجون من الموت.. يتعرضون لأيام وحتى لأسابيع ربما..لفشل شبه تام في وظائف الجسد .وتعب ، وترهل ، وعدم قدرة على ممارسة اي نشاط بصفة اعتيادية وبروح متجددة..ويلزمهم وقت للتعافي والانخراط من جديد في دورة الحياة الطبيعية..
تذكرت كل هذا..وأنا اتابع مثل غيري وباء ” الكورونا” الذي انتشر في كل اصقاع العالم ..وكيف تجيشت الصين وامريكا وروسيا.. وكل دول آسيا وأوروبا بباحثيها..وعلمائها ومختبراتها وامكاناتها المادية البشرية لاتقاء شر هذا الطاعون والبحث عن لقاح ضده في أسرع وقت..ومهما كان الثمن..بعد ان حصد بعض الالاف من مواطني تلك الدول..
تذكرت كل هذا بحزن..حين هلع وفزع العالم الغربي المتحضر لما مسته جرثومة ” كورونا” بأسرع ما يمكن ، بل في اللحظة ذاتها ، بعد موت بضعة الاف فقط منهم، ولم يحرك ساكنا لتساقط الضحايا من الملايين ومنذ عقود بسبب الملاريا.. والجوع..والفقر .. والحروب السخيفة التي اشعلوها في قارة إفريقيا..والعالم العربي..
وكعادة العرب دائما..نترك الأرنب..ونمضي الى الجذوع اليابسة التي لا ظل فيها..ولا يقف وراءها أحد..نظل في البؤس عند تخوم مختبراتهم ننتظر جرعة لقاح او حبة دواء تنقذنا من الابادة والانقراض.. بل نظل ندعو الى فتح المساجد -بدل المخابر والبحوث العلمية -لبث ادعية الهزيمة والتضرع الى الله الذي يدعونا للعمل اولا.. وبالتاكيد بلا جدوى..
فنحن ما زلنا نبحث مثل أهل اسبرطة.. هل توجد اناث في صفوف الملائكة..وكيف نستبق الرّجْل اليُمنى عن اليسرى..حين ندخل بيوتنا…