لست الوحيد الذي حزن بحرقة من اجل مأساة لبنان.. ولست […]
لست الوحيد الذي حزن بحرقة من اجل مأساة لبنان.. ولست الوحيد الذي يدرك ايضا ان احزاننا العربية تلاحقت وتعاظمت من طنجة حتى المنامة الى درجة انها صارت فينا فعلا يوميا نمارسه مثل لاعبي الثيران الاسبانية وعبيد روما في حضرة حاملي ضحكات الشماتة والحقد والدم وحاشيتهم… وتمارس فينا هي ايضا كل اشكال وفنون الانتقام والمازوشية ومُدْمني السلخ والتعذيب.
ان الحزن فاق حدود لبنان، وحط مثل اسراب البوم في خرائب قلوب كل العرب تحديدا.. واثار دهشة واستياء وذهول كل شعوب العالم … وكشف لنا مرة أخرى كم بائسون نحن العرب.. بل كم صرنا افقر من ذرة الرمل، وأحقر من بعوضة.. وكم وصل بنا الامر الى مرحلة من الذل والعار والياس والتسول الى درجة لا احتمال بعدها ، بل لم نقرا لها مثيلا في مدونات التاريخ ..وكيف عبث الحكام العرب بمصائر شعوبهم وبأجيال كاملة دون كلل او رحمة ودون خوف او رهبة في وضح النهار ، فوق المنابر ، وتحت قباب المآذن وبين أذرع المحاريب المزينة اقواسها بالآيات القرآنية والاحاديث النبوية والمكتوبة بماء الذهب احيانا ، وحتى تحت اجراس ومعابد الكنائس ، وفيها من الورع والتقوى والموعظة الحسنة والدعوة الى نشر التقوى والعدل والاحسان واشاعة الخير في صفوف الرعية ، والنهي عن الظلم والفحشاء والمنكر .. وهي كلها اشد بهتانا وخديعة وكذبا من ذئب وقميص يوسف.
ان الغرابة والبشاعة في هذا الحزن، لا تطول لبنان وحده بل تنسحب على بلداننا العربية كافة..
فجغرافيا لبنان مثلا .. تكاد تكون نفس المساحة لولاية او محافظة القيروان عندنا.. وان عدد اللبنانيين الشتات المهاجرين في كل اصقاع الارض.. اكثر بمرتين او يزيد من سكانها المقيمين هناك.. ثم ازيد كم علما ان ديون هذا البلد تعتبر من اكثر الديون المرتفعة في العالم.. ثم هاكم ايضا.. ان سكان لبنان مثل سكان تونس ايضا.. يمكن ايواءهم في حي من أحياء باريس او نيويورك او موسكو، هذا اذا لم تعجبنا بيكين الصينية او حقولها الخصبة المترامية حول سورها العظيم…
ان عدد احزاب الخراب في دولنا اكثر من عدد مستشفياتها وجامعاتها ومراكز البحوث العلمية فيها.. فماذا اضافت حوانيت صناعة الوهم والخديعة هذه لشعوبنا..غير الفقر والجوع والتسول والبؤس والمرض والياس.. والخراب بكل انواعه..
لماذا يفعل بنا حكامنا العرب كل هذا يااارب..
لماذا يسرقون قوتنا ودمنا وفرحنا ولا يتعبون ولا تعتريهم بارقة شفقة وحيدة.. ولا يثوب اي قاطع طريق او لص الى رشده بعد ان يشبع على الاقل..؟!!
لقد تملكتني الغصة تلو الغصة وانا اشاهد امراة لبنانية ترتمي في حضن الرئيس الفرنسي خوفا وهلعا ودمارا.. وانا التقط صراخ المقهورين من حوله وهم يناشدونه بالحماية الفرنسية ويلحون عليه بعدم اعطاء فلس واحد للطغمة الحاكمة خشية لهفها قبل وصولها الى خزينة بلادهم..
انهم ليس بخونة بالتأكيد.. او مرتزقة فرنسا وطابورها الخامس او العاشر..
فاللبنانيون ومنذ افلاطون اصحاب حضارة ومجد ونخوة وثقافة وعزة نفس وكبرياء..
وبيروت ظلت وما تزال منارة للفكر العربي والحرية والابداع منذ الفينيق مرورا بجبران وميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وسعيد عقل ويوسف الخال وفؤاد افرام البستاني وبشارة الخوري وصولا الى حسين مروة المغتال وخليل حاوي المنتحر وانسي الحاج ووديع الصافي وفيروز..وغيرهم كثير..كثير..ممن حملوا راية التنوير والابداع العربي وثقافة الاصالة والتنوع والحداثة عاليا وبعيدا..
واللبنانيون هم اكثر الشعوب العربية ذكاء وفطنة وثقافة وتحررا وتسامحا وانفتاحا على الاخرين.. غير انهم اصيبوا في مقتل هذه المرة .واستولى على اعناقهم وارزاقهم وكرامتهم الخونة واللصوص والمرتزقة بحرا وبرا وجوا كسائر الشعوب العربية الاخرى ..ولم يجدوا سبيلا للخلاص من براثن هؤلاء المحتالين والمرابين سوى الارتماء في احضان الغريب قبل القريب.. بعد ان بلغ الجرح مداه.. وسقطت على مدينتهم.. واخر صومعة للقمح عندهم حمولة ” “هيروشيما”.. وباتوا اكثر جوعا وتشردا وضياعا.. واتسعت الاوجاع والمنافي فينا جميعا.. ولم يعد يوجد من حولنا ” معتصم ” يجيرنا…
ان ماساة لبنان.. هي مأساتنا جميعا .. نعيشها منذ عقود بنفس الحرقة والالم والقهر.. لكن في شكل انهيارات وحرائق اخرى..وبأساليب تعذيب تراعي خصوصية كل اجلاف جغرافيا العرب من الحجاز و نَجْد ..وحتى مشارف جبل طارق بن زياد ..
ألم يردد الشاعر اللبناني الكبير ” خليل حاوي ” ويختصر نشيد موته وموت امّته منذ عقود وهو يطلق رصاصة الرحمة على راسه ،، نائحا في ملحمته الرائعة” البحّار والدرويش” من ديوانه: ” نهر الرماد”.