غاب عني أحد الأصدقاء من المتقاعدين ولما التقيته سألته عن […]
غاب عني أحد الأصدقاء من المتقاعدين ولما التقيته سألته عن أخباره وعن كيفية قضاء وقته في هذا الظرف الذي تفشى فيه وباء الكوفيد ولم نعد نقدر فيه على الخروج لا إلى المقهى ولا المسرح ولا السينما ولا حتى لقاء الأصحاب للترفيه ولعب الورق … ففاجأني بدمه البارد وانصياعه لتقاليد وعادات جديدة فرضت نفسها على العديد من الناس منذ أن خضع العالم بأسره لديكتاتورية الجائحة التي لم يسلم منها لا المتقدم ولا المتخلف من البلدان، ولا الغني ولا الفقير من الناس، لا الرجال ولا النساء…بل حتى الأطفال وان كانوا غير معرضين في ذواتهم للوباء فإنهم قد يكونوا قادرين على نقل العدوى لغيرهم من كبار السن..
قلت إذن، كان جواب صديقي المتقاعد أنه في ضوء هذه الظروف الطارئة والتي تواصلت وأصبحت كحالة قانون الطوارئ، ليس فيها من الطارئ إلا الاسم، حيث باتت حالة عادية نتعايش معها كل يوم، فقد قرر – وهل له خيار آخر- إعادة تقسيم حياته وبالتالي يومه إلى ثلاثة أجزاء تقريبا متساوية…الأول منها في ثمان ساعات مخصص للنوم والأكل وهي طلبات غريزية لا يمكن أن يجادل فيها ويستجيب لها بكل حماس سواء في النهار أو الليل والمقصود بالنوم في النهار هي تلك القيلولة القصيرة التي تعود على ممارستها منذ أن كان تحت نظام الوظيفة.
وخصص الجزء الثاني من حياته للرياضة البدنية والفكرية حيث يداوم على المشي كل يوم حوالي نصف الساعة حسب طاقة الجسم من خلال جولة على شاطئ البحر… وهي في الحقيقة لم تكن عادة ولكنها تقليد فرض نفسه قبل الكوفيد بفضل صداقة له مع كلب وفيّ كان يرافقه في جولة على الأقدام مرة كل يوم لقضاء حاجته، ثم لما وافت المنية هذا الحيوان الأليف تواصل العمل بتلك العادة التي أصبحت ضرورة ملحة عندما غرق العالم في هذا الوباء وانعدمت رؤية الأصدقاء. فكانت تلك الجولة صرخة في واد غير ذي زرع ومحاولة فرار من السجن الذي أحكمت أبوابه الجائحة على خلق الله. وما أن يتم أداء هذه الفريضة، حتى ينتقل إلى الانغماس في الرياضة الفكرية من خلال قراءة كتاب قد يكون رواية وربما سيرة وأحيانا سردية فكرية، أو كتابة نص في مواضيع شتى مثل هذا الذي بين أيديكم.
أما الجزء الثالث من حياته فهو بدوره منقسم إلى ثلاثة أجزاء كل واحد منها تتحكم فيه شاشة صغيرة… الأولى هي شاشة التلفزة التي عوضت قاعات السينما المهجورة والملاعب الرياضية المقفرة من خلال البحث عن شريط سينمائي أو مقابلة كروية شيقة عادة من الأراضي الانكليزية أو الغربية عامة والاستثناء الوحيد الذي يشده إلى تونس هي مقابلات الفريق الوطني مهما كانت نوعية المباراة. أما الشاشة الثانية والثالثة فهي الهاتف والحاسوب التي عوضت ساحة المقهى وصالون المنزل حيث كانت تتواتر اللقاءات مع الأحبة والأصدقاء للدردشة و”التقطيع والترييش” في الفضاء الأول وللترفيه والمبارزة في لعب الورق في الفضاء الثاني. ويكفي هاتين الشاشتين فخرا أنهما عوضا إمكانية التواصل المباشر مع الأصدقاء بالصوت والصورة حتى وان كان ذلك أقرب إلى فضاء افتراضي لا لمس ولا إحساس فيه إلا عن بعد وبالعين المجردة.
شكرت صديقي لصراحته وعبرت له عن غبطتي لما هو فيه ولكني لم أتمالك نفسي عن سؤاله.. هل انتقل العالم فعلا إلى نوعية جدية من الحياة لا تواصل فيها إلا عن بعد ولا رؤية فيها لوجه صبوح وثغر ضاحك؟… هل من نهاية قريبة لغشاوة هذا القناع الذي كمم الأفواه وغطى الوجوه وبتنا بسببه ملثمين لا نعرف معنى القسمات ولا رموز الابتسامات الصفراء منها ولا الخضراء؟… ألم تبق لنا سوى غمزات العيون أو دموعها الجارية …هل من عودة قريبة أم هي رحلة إلى عالم جديد ؟… ضحك صاحبي بصوت عال حتى يسمعني قهقهته… وقال: الله وبيل غايتس يعلمان.
بقلم علي الجليطي