بقلم: علي الجليطي كنت في المدرسة في مطلع الستينات شديد […]
بقلم: علي الجليطي
كنت في المدرسة في مطلع الستينات شديد التعلق بالدراسة وحب المراجعة كل ليلة تحت ضوء خافت منبثق من “قازة”. انه القنديل الذي ما انفككت أقرّبه من وجهي ومن الكتاب أو الكراس حتى تتضح الحروف والأرقام بما فيه الكفاية. ولا أخلد إلى النوم إلا عندما أكون قد استوفيت مراجعة الدرس الماضي أو إعداد الدرس الذي يليه. غير أن ما يزعجني هو ذاك الدخان الذي يلتصق بجوف الخيشوم ولا أتفطن إليه إلا صباحا عندما أغتسل فيخرج الماء من المنخرين أسود اللون. فألعن ذاك القنديل ولكن لا مفر منه فهو رفيقي في الظلام حتى وان كان نوره في الليل يتحول إلى فحم في الصباح.
كنت أكره اللون الأسود وفي الحقيقة أخاف من الظلام وممن قد يكون مختفيا وراءه. ففي كثير من الأحيان كانت عودتي من المدرسة إلى المنزل الذي يبعد ما يفوق الثلاث كيلومتر عن وسط البلدة تتم تحت جنح الظلام وخاصة في أمسيات الشتاء حينما تتقلص ساعات النهار. كان الجسم يرتعد خشية مما قد يعترضني عند المرور “بوادي القمح” في أطراف المدينة من أشباح مخيفة تجسّم ما قرأته الليلة الماضية من أحداث مثيرة في قصص كامل الكيلاني التي كنت ألتهمها التهاما في تلك الفترة ثم تظل خيالات أبطالها ولا سيما من الحيوانات تلاحقني عندما أخلد إلى النوم. ثم تطاردني أشباحها في خيالي عند العودة وحيدا ليلا من المدرسة، و لا يزيد نباح الكلاب السائبة ليلا في ذاك الوادي المظلم إلا رعبا ورهبة في القلب.
أكره وأخاف الظلام ولكني أعشق قصص كامل الكيلاني وأهوى المطالعة مهما كان نوعها حتى انه لما أعلن ذات يوم السيد “المدني” المدير الجديد للمدرسة عن فتح المكتبة العمومية وتخصيصها بعد انتهاء الدروس لنادي المطالعة، كنت من أول من بادر بتسجيل اسمه للمشاركة في هذه الحصص المسائية. وكانت فرصة لإحكام الاستعداد للسنة النهائية التي تختتم فيه الدراسة الابتدائية ولكن بالخصوص لمزيد الاطلاع بكل شغف على الكتب التي تزخر بها المكتبة العمومية والاستمتاع بالاستماع إلى تلك الروايات التي كان يختارها السيد “المدني” مدير المدرسة ويقرأها بصوت جهوري كل يوم فتخفق قلوب الحاضرين من الأطفال مع تقلب أحداث الرواية التي ينهيها في ختام ساعة مع الوعد باستكمال البقية يوم الغد. فكان مخترعا قبل الأوان لما يشبه المسلسلات التلفزية اليوم حينما يقطع المخرج حبل المشاهدة لمزيد التشويق وحمل المشاهد على العودة في الموعد المقبل لمتابعة بقية الحلقات.
والى اللقاء في حلقة جديدة من ذكريات الزمن الجميل.