رائحة الأرض الطيبة (2) أعود معكم حيث تركت البعض منكم […]
رائحة الأرض الطيبة (2)
أعود معكم حيث تركت البعض منكم يستمتع معي بذكريات حلوة من الزمن الجميل ولا سيما في فصلي الخريف والشتاء من الخمسينات والستينات من القرن الماضي وقد فاح عبق الأرض الطيبة وباحت بخيراتها في ريف الجنوب التونسي.
في تلك الأيام كانت الحياة بسيطة ولكن الناس في نظري سعداء. ففيما يختص الربيع بجمع الأعشاب التي تُخزّن لتكون غذاء للحيوانات في فصل الشتاء، فان خاصية مطلع الصيف هو موسم حصاد الشعير والقمح والذي يمتد على حوالي شهر كامل أو أكثر حسب المساحة المزروعة. ثم ينقل المحصول تباعا إلى ساحة مهيأة تسمى “المندرة”. وما أن تنتهي عملية جمع الحصاد حتى يُشرع في “درس” المحصول أي دهسه سواء آخر النهار أو أثناء الليل باستعمال العصي أو الدواب أو باللجوء إلى آلة تسمى “الجاروشة”. وهي عبارة عن مركبة خشبية عجلاتها مسنّنة يركبها رب العائلة وتجرها دابة تدور في حلقة دؤوبة فوق “المندرة” إلى أن تخرج حبات الشعير من السنابل. ثم يتم فصل الحبات عما علق بها من شوائب “التبن” باستعمال “المذراة” والاستفادة في ذلك من طاقة الريح قبل جمع المحصول في النهاية داخل أكياس مصنوعة من شعر الماعز تسمى الواحدة منها “غرارة”.
وتتواصل من ناحية أخرى خلال أشهر الصيف عملية جني التين وتجفيف البعض منه تحت أشعة الشمس فوق سطح المنزل قبل أن ينقلب إلى ما نسميه “الغربوز” أو “الشريح”، ثم يخزّن في قوارير بلورية أو “خابية” من الفخار ويؤكل في الشتاء مع خلطة “البسيسة “. وما أن ندخل فصل الخريف حتى تكون عراجين النخل قد مالت إلى صُفرة تهفو لها العيون والأفواه قبل أن تأخذ شيئا فشيئا لون التمر بأنواعه ما عدا نوع “الدقلة” التي لم نكتشفها بعدُ في تلك الربوع غير البعيدة عن واحات قابس والجريد المشهورة “”بالدقلة في عراجينها.” وتنطلق عملية جني التمور في أجواء مرحة للأطفال ومضنية للكهول حيث يتم اللجوء غالب الأحيان إلى مختص ماهر في تسلق جذع النخيل والتسلل إلى القمة لقصّ العراجين وإنزالها عبر الحبال إلى الأرض فيتلقفها الشباب والكبار قبل جمعها وحملها فوق الحمير والبغال والجمال حسب ما تملكه العائلة من الدواب. وفي باحة المنزل، تتولى النسوة آخر النهار ومطلع السهرة مهمة نزع التمر من العرجون “وفصّه” أي فصل النواة وتخليصها والتي سيكون مآلها غذاء للحيوان. أما غشاء النوى فهو التمر الذي يُعجن في آنية من الفخار قبل حفظه للاستهلاك في بقية السنة.
وهكذا يدور الحول وتتواصل دورة الحياة في قريتنا الهادئة في رتابة معهودة ولكنها غير مملة أبدا… والى اللقاء في صفحات أخرى من قاع الذاكرة.