بقلم علي الجليطي عرف الناس في كافة أنحاء البلاد التونسية، […]
بقلم علي الجليطي
عرف الناس في كافة أنحاء البلاد التونسية، وخاصة في الستينيات، انتشار المذياع بمختلف أحجامه وأشكاله كوسيلة أولى للاتصال الجماهيري، وبعد أن كانت العائلة مجتمعة حول كانون الشاي وخرافة الجدة أصبح الراديو هو محور اللقاءات وحاملا للأفكار والأحداث. ثم تلاه التلفزيون وذاع صيته في السبعينيات في البداية بالأبيض والأسود ثم بالألوان وكانت شاشته لا تتجاوز الذراع ومؤخرته منتفخة كمن تحمل رضيعا فوق ظهرها. وباتت السهرات العائلية تنتظر توجيهات السيد الرئيس والنشرة المسائية قبل متابعة مسلسلها المحبوب أو مقابلة كرة القدم لمنتخبنا الوطني. وفي نفس هذه الفترة تقريبا راجت المسجلات الصوتية وعرفت بفضلها الأغاني أوجا كبيرا وغيرها من المضامين المحمولة على أشرطة” الكاسات” k7 التي كانت في الغالب مزدوجة في نفس الجهاز مع الراديو فخففت من ثقل الزمن وعبء العمل خاصة بالنسبة لربات البيوت وسواق التاكسي وسيارات الأجرة والحافلات العابرة للولايات.
ثم شهدت بداية الثمانينيات انتشار أجهزة التسجيل المرئي عبر تقنية الفيديو أو ما يعرف بـ ” VHS” وهي أشرطة محملة بالأفلام بكل أنواعها وبالأغاني المصورة، وخُصصت لبيع أو كراء هذه الأشرطة أكشاك وتجارة ناجحة راجت طيلة عشريتين إلى أن تجاوزتها التطورات التكنولوجية الجديدة فاندثرت وأصبحت في طي التاريخ.
مع بداية التسعينيات بدأت أجهزة الحواسيب تغزو الإدارة وتحتل شيئا فشيئا مكان الآلات الراقنة قبل أن يدخل هذا الجهاز في المؤسسات بكافة اختصاصاتها وكذلك في المنازل ويصبح آلة للعمل والترفيه والتعليم والثقافة، وأيضا مرتعا للمنحرفين من الباحثين عن كل ما يخرج عن القانون والأخلاق والأعراف عندما بات الجهاز مرتبطا بشبكة الواب العالمية أو ما يعرف بالانترنت. وظهرت في نفس الوقت أجهزة الهاتف الجوال الذي انطلق أولا في المحيط القريب معوضا الهاتف القار قبل أن يتوسع نطاقه ويصبح هاتفا نقالا محمولا في الجيب من شدة صغر حجمه.
وفي التسعينيات أيضا تراجعت تلك الهوائيات التي تُستعمل لالتقاط الإشارة التلفزية عندما ظهر ما يسمى بالتلفزة الفضائية حيث تفشت ” قصاع البارابول” فوق السطوح، في البداية بترخيص من الوزارة المعنية بل وحتى بالتفكير في دفع معلوم للبلديات، قبل التراجع في الأمر عن الترخيص والمعلوم بسبب أهمية الظاهرة وضرورة التأقلم معها بسرعة. وانتشرت في نفس الوقت مع التلفزيون الفضائي آلة التحكم فيه عن بعد قبل أن تذوب وتتلاشى مؤخرته تاركة المشاهد أمام شاشة مُسطّحة بأحجام متفاوتة تتنافس في دقة صورتها الشركات العظمى الاسياوية بالأساس .وبعد أن كان المشاهد يجلس أمام التلفاز لمشاهدة قناة وحيدة ثم مُخيّرا بين اثنتين أو ثلاثة ، ومع انفتاح الفضاء التلفزي بالقصعة أولا ثم عبر الإنترنت ثانيا، أصبح المشاهد البسيط تائها في غابة من القنوات ينتقل من واحدة إلى أخرى دون وعي أو تركيز إن لم يتم تخديره بمعسول الكلام وغسل دماغه تماما.
وما أن تقدمنا في التسعينيات حتى بدأت شيئا فشيئا تختفي أجهزة الفيديو والمسجِّلات الصوتية وتحل محلها الاسطوانات المدغمة التي تحمل الصوت والصورة معا قبل أن يزاحمها في ذلك الهاتف المحمول الذي بات نجم العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين حيث صار جهازا ليس للمهاتفة فقط بل وكذلك للتصوير والتسجيل الصوتي، فضلا عن الترفيه بل وحتى للتجسس وكذلك للإرهاب باستعماله كجهاز تحكم في المتفجرات إن لم يلعب بذاته هذا الدور. وقد وصلت اليوم هذه الآلة العجيبة جيلها الخامس ويعلم الله ما ستأتي به لنا في قادم السنوات خاصة مع التطور المذهل لتقنيات التحكم عن بعد في كل ما يحيط بالإنسان. وهي اليوم تمنح الإنسان القدرة على التحكم في سيارته وتحديد موقعه وضبط خارطة طريقه والبحث عن أغراضه الضائعة ومراقبة منزله ومتابعة ابنه في تنقلاته والتصرف في حسابه البنكي والتبضّع في السوق وغير ذلك كثير مما لا يمكن عدّه في مجالات الحياة…
وكل ذلك لم يكن ممكنا لولا تواصل مسيرة التطور العلمي وتأثيرها على التواصل البشري حيث لم يكد العالم يدخل العشرية الثانية حتى باتت الانترنت وأجهزة التواصل الاجتماعي مهيمنة على حركة المعلومات وسيلها في العالم بظهور شركات عظمى مثل ميكروسوفت وفايسبوك وغوغل وغيرها التي أدخلت وسائل اتصال جديدة على غرار” سكايب ومسنجر و تويتر وواتساب”، فضلا عن توثيق و تخزين المعلومات بكافه أنواعها ومضامينها واستحضارها أمام الراغب في رمشة عين.
كما لا تكاد تجد أحدا، حتى من كان مترددا في البداية، دون حساب خاص على الفايسبوك الذي أصبح بالفعل مجسدا للقرية العالمية التي بشر بها في القرن الماضي علماء الاجتماع والاتصال محمَّلا بكل ما في النفس من التقوى والفجور كصورة مصغرة من المجتمع البشري الذي تتجاذبه قوى الخير والشر على مدى التاريخ.
تلك هي خلاصة موجزة لمسيرة الاتصال والتواصل الاجتماعي منذ سبعينيات القرن الماضي ولا نعلم ماذا يخفي لنا علماء العقود القادمة من اختراعات جديدة قد تقلب تقاليدنا وعاداتنا رأسا على عقب… إيه…أين نحن من خرافات جدتي وحكايات بابا عبد العزيز العروي؟