بقلم: عبد الرؤوف بوفتح عندما كنتُ صغيرا، لطالما انبهرتُ بجُملة […]
بقلم: عبد الرؤوف بوفتح
عندما كنتُ صغيرا، لطالما انبهرتُ بجُملة ارتبطتْ في ذهني بالحديث عن “قصص النّجاح”.
قصص.. تُروى في بيوت العائلات وعلى ألسن الاثرياء، وفي حماسة المعلم وهو يلوح بعصا الزيتون في وجوهنا.. وفي نصائح أبي الطيب، وبقايا احلامه المهشّمة تحت انظار وصمت أمّي الفَوّاح مع كأس شاي دافئ وشيء من الحلوى إن توفّرت.
وقُبيْل أن تتحوّل هذه القصص في زمننا إلى صناعة إعلاميّة مبتذلة تشوّه وعي الشباب بأنموذج النّجاح الذي يجب اتّباعه.
كنتُ أنصتُ بانتباه إلى كل ذلك اللغط مستمتعا بحكاياتهم التي تبدأ دائما بتلك الجملة المدهشة:
– “فلان بدأ كلّ شيء من الصّفر”.
ربّما لم يكن انبهاري بها راجعا إلى الفهم ،، بقدر ما كان مرتبطا بالغموض الّذي يكتنف رأسي وقتها.
– كيف يبدأ إنسان كلّ شيء من الصفر..؟
– هل يمكن حقا أن يحدث شيء من هذا القبيل.؟
ثمّ ما الغاية من أن يكبر الإنسان في عالم لا يقدّم إليه شيئا غير ذاك الصفر الذي عليه أن يبدأ منه..؟
هل كانت خطّة الله الأزليّة أن يخلقنا ويوزّع علينا أصفارا ثم ينظر ماذا سيفعل كلّ منّا بصفره..؟
كانت الجملة مغرية وغامضة في ذهني، ومع ذلك كنتُ أحبّها خاصة عندما يتعلّق ذكرها بالحديث عن كفاح أحد أفراد العائلة من أجل لقمة عيشه وعيش أبنائه، وكنتُ سعيدًا بالصفر الذي أملكه لأبدأ منه.
وقتها ..كنتُ كأغلب أبناء ريفنا احلم أن أصبح طبيبا ، وكنتُ أقول:
– سأبدأ أيضًا من الصفر… وسيأتي يوم اُخلّص فيه أبي وأمي واخوتي وكل افراد عشيرتي من برد وفقر اصفار القلب والرأس والمفاصل التي انتشرت في كل سلالتنا، وسنثبت لله أننا نجحنا في اختبار الأصفار العظيمة.
وكان هذا الإيمان يكبر في داخلي شيئا فشيئا قبل أن أكتشف أنّ الفتاة التي أحببتها في السنة الأولى من التعليم الابتدائي لم تكن تملك صفرا مثلي.. بل كانت تملك رقما لا يمكنني أن أتخيّله بالنسبة إلى طفل تقف عملية العَدّ في ذاكرته عند أصابع يديه.
وبعد أن اكتشفتُ أنها لم تكن وحدها في نادي الأعداد التي تتجاوز أصابع يدي، أصبحتُ مكتفيا بالبحث عن الأصفار التي تشبهني وتتقاسم معي نفس الهواجس والبلاهة والطموح.
كان ذلك قبل أن تفسد علاقتي بالأصفار أيضا، بعد أن خيّبتْ اناقة وعقلانية مادة الرياضيّات حسن ظنّها بي .. والتي لا تؤمن بالهوامش والدعاء.. وكتابة الشعر.
وقف أستاذ الرياضيات واثقا من نفسه ..ثمّ أخبرنا كيف أنّ الصفر ليس أصغر عدد بين الأعداد الموجودة ثمّ كتب على السبّورة :
“ناقص اثنين مع اثنين يساوي صفر. ثمّ فسّر لنا درس الأَعْداد السالبة وكلّفنا بتمرين منزليّ للحصّة الموالية “.
هل يُعقل أن يكون ثمّة ما هو أصغر من الصفر..؟
تساءلت سريعا ثمّ قبلتُ بهذه الحقيقة الجديدة مثلما قبلتُ بحقيقة أنه توجد أعداد تفوق أصابع اليد.
هذا ما تفعله الحياة إذن.. أليس كذلك.!؟
إنها لا توزّع أصفارا على الجميع مثلما اعتقدت، ومثلما أسنَدَت أعدادًا مُوجبة وأصفارا.. فلا بُدّ ..أنها أسندت كذلك أعدادا سالبة أيضا.
لم يكُن صفرا .. ذاك الذي حصلتُ عليه في البداية. كان عددا سالبًا ضخما لم أستطع تخيّله هو الآخر.
المُنغّص المضحك في كل هذه السّيرة.. انني لم أصبح طبيبا، ومات أبي..ثم تلته امي ( يرحمهما الله) ، وتزوّجتْ فتاة السنة السادسة من التعليم الابتدائي من فئة عدد يشبهني ويشبهها – ربما- ومازالتُ كلّ ما أفعله إلى الآن يتلخّص في الكفاح من أجل الوصول إلى ذاك الصفر الجميل المفتوح على جميع الاحتمالات، إلى ذاك الفراغ الدائري المبهر الذي يمكن للإنسان أن ينطلق من جاذبيته .. بين تِيهٍ ..وتِيه..!!