بعد مضي أكثر من نصف قرن، لم ينس الفلسطينيون ذلك […]
بعد مضي أكثر من نصف قرن، لم ينس الفلسطينيون ذلك “اليوم الأسود” في تاريخ مدينة القدس، حيث قام متطرف يهودي استرالي الجنسية، بإضرام النار بالمسجد الأقصى المبارك، والذي أتى على ثلث مساحة المسجد ومنبر صلاح الدين التاريخي، ومسجد عمر ومحراب زكريا ومقام الأربعين، وسقوط سقف المسجد وتضرر المحراب والجدران الجنوبية.
لكن آثار الحريق مازالت تمتد إلى اليوم، من خلال الحفريات بمحيط المسجد الأقصى وتحته، وسعيه لتقسيم الأقصى زمانيا ومكانيا، بين المسلمين واليهود، والتضييق على المقدسيين وسلبهم ممتلكاتهم وحتى أرواحهم.
القصة الكاملة
يوم الخميس الموافق الخميس 21 آب/أغسطس من عام 1969، وعند الساعة الثامنة صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة القدس، أقدم يهودي يحمل الجنسية استرالي يدعى دينيس مايكل وليم روهان (28 عاماً)، للمرة الثانية، بعد فشل محاولته الأولى، على إشعال النار عمدا في الجناح الشرقي للمسجد، خلال اقتحامه، ووقتها أتت النيران على واجهات المسجد الأقصى وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث، وتضرر البناء بشكل كبير.
وقد جاءت النيران التي سببها الحريق على ثلث مساحة الأقصى الإجمالية، باحتراق ما يزيد عن 1500 متر مربع من المساحة الأصلية البالغة 4400 متر مربع، ما أدى إلى حدوث ضرر بليغ في الأبنية، والأعمدة حيث سقط سقف المسجد على الأرض نتيجة الاحتراق، وسقط عمودان رئيسان مع القوس الحامل للقبة، كما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية، وتحطم 48 شباكا من شبابيك المسجد.
وتعمد سلطات الاحتلال في حينه، على قطع الماء عن المصلى القبلي ومحيطه، وتباطأ في إرسال سيارات الإطفاء، ما اضطر المواطنون إلى المبادرة لإخماد النيران، وإنقاذ القبلة الأولى للمسلمين.
واثبت تقارير، عن وجود جهة كبرى تقف وراء الحريق، حيث تم ادخال كميات كبيرة من مواد شديدة الانفجار لا تتوفر إلا لدى الدول والجيوش، إلى داخل المسجد، في الوقت الذي تمنع فيه شرطة الاحتلال، من الدخول الى المسجد الأقصى دون تفتيش.
أولى المحاولات
بدأت أولى المحاولات، مع صدور و”عد بلفور” المشؤوم عام 1917، حيث اتخذ اليهود حائط البراق مكانا لطقوسهم، بالوقوف عنده، ليتدرج بعدها الأمر، بإحضار المقاعد ثم الشمعدان اليهودي والزي المتدينين، وبمرور الزمن ادعوا أن حائط البراق من بقايا “الهيكل اليهودي” المزعوم.
وحاول اليهود، في تلك الاثناء، الاستيلاء على حائط البراق بتملك الأماكن المجاورة له، لكنهم فشلوا، وأصبحت تزداد زياراتهم للحائط حتى شعر المسلمون بخطرهم، ووقعت ثورة البراق بتاريخ الـ23 من أوت 1929 فاستشهد فيها العشرات من المسلمين وقتل عدد كبير من اليهود.
تكرُّر المحاولات
بعد احتلال شرقي مدينة القدس عام 1967، تجددت المطامع الإسرائيلية في الأقصى، وتكرست مع اشعال حريق داخله في تاريخ 21 أوت 1969.
كما بدأ الاحتلال بهدم حي المغاربة الملاصق للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك بما فيه من آثار ومدارس ومساجد وزوايا، ثم نسفوا المنازل التي كانت تحيط بالجدار فشردوا أهلها بدعوى أن منطقة الحائط ملك لليهود منذ ثلاثة آلاف عام.
ساحة البراق
بعد الاستيلاء على حي المغاربة ،ومسح آثاره ومبانيه، أقام المحتلون الإسرائيليون ساحة كبيرة مبلطة أمام حائط البراق ليتجمعوا فيها لأداء طقوسهم أمامه، كما استولوا على مفاتيح باب المغاربة التي لا تزال معهم، ولذلك يعتبر باب المغاربة هو المدخل المعتاد لكل الاقتحامات التي ينفذها اليهود في المسجد الأقصى.
ويوجد في هذه الساحة الباب الأول للنفق الذي حفرته سلطات الاحتلال موازيا للسور الغربي للحرم الشريف بطول نحو 488 مترا، وأوصلوه بقناة رومانية قديمة طولها ثمانون مترا، وفتحوا بابا ثانيا في نهاية النفق عند مدرسة الروضة الإسلامية عام 1996.
الأقصى بعد 51 عاما من احراقه
تأتي الذكرى الـ 51 لإحراق المسجد الأقصى المبارك، وما زال الاحتلال الإسرائيلي يخالف القرارات الدولية بسيطرته الإدارية والسياسية على المدينة، كما يسعى لفرض أمر واقع على الفلسطينيين والمجتمع الدولي، باعتبار “القدس كاملة” عاصمة لها.
وشجّعت الإدارة الأمريكية الحالية، برئاسة دونالد ترمب، الاحتلال الإسرائيلي، في مشاريعه التي يصفه مراقبون بـ”الاستعمارية”، حيث اعترف ترامب في ديسمبر 2017، بمدينة القدس (غير مقسمة) عاصمة لـ “إسرائيل”.
ومن ضمن تلك المشاريع الخطيرة، تقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانيا ومكانيا، ويقصد بالتقسيم الزماني، تقسيم أوقات دخول المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود، بينما التقسيم المكاني هو تقسيم مساحة الأقصى بين الجانبين.
ويؤكد متخصصون في قضية القدس أن الخطوة التالية بعد ترسيخ التقسيم الزماني، ستكون الانتقال إلى تطبيق التقسيم المكاني، كما حدث في المسجد الإبراهيمي قبل أكثر من عقدين من الزمن، بهدف اقتطاع أجزاء ومساحات من المسجد الأقصى ليحوّلوها لكنس يهودية.
ولتحقيق التقاسم الزماني والمكاني ينظم المستوطنون جولات ميدانية شبه يومية للمسجد الأقصى.
فقد شهدت السنوات القليلة الماضية ازدياداً ملحوظاً في عدد ونوعية المقتحمين للأقصى، بعد تخصيص فترتين صباحية ومسائية للمقتحمين، وارتفع عدد المقتحمين للأقصى من 5,658 في سنة 2009، إلى 30,416 مقتحماً في سنة 2019، فيما بلغ عدد المقتحمين 28,674 خلال الفترة الممتدة ما بين الأول من آب/أغسطس 2019 و31 جويلية 2020 ، بحسب إحصائية خاصة لمؤسسة القدس الدولية.
تهويد تحت الأرض
وامتدت مشاريع الاحتلال للقيام بعمليات حفر في تسع مناطق أسفل البلدة القديمة، من بينها ثلاث حفريات أسفل المسجد الأقصى. وتقوم سلطات بتعميق وتوسيع الأنفاق أسفل المسجد الأقصى، وفي محيطه.
ودأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، منذ احتلالها لمدينة القدس عام 1967، على القيام بحفريات تحت المدينة، وخاصة البلدة القديمة فيها ومحيط المسجد الأقصى، بهدف تهجير الفلسطينيين من البلدة، وإحكام السيطرة على ساحات الحرم القدسي، كما يقول مسؤولون في دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
تفريغ القدس من المقدسيين
وضمن عمليات الاستيلاء المسجد الأقصى، تفريغ مدينة القدس، من سكانها الأصليين المقدسيين واستبدالهم باليهود، وذلك من خلال مصادرة الأراضي والعقارات من أهلها لا سيما الغائبين، إضافة لتهجيرهم خارج المدينة.
فقد نفّذ الاحتلال 300 عملية هدم في القدس من أصل 686 عملية هدم تمت في أراضي الضفة الغربية خلال سنة 2019، فيما هدمت سلطات الاحتلال 313 منشأة فلسطينية خلال النصف الأول من سنة (2020) 54 في المائة منها في محافظتي القدس والخليل.
ومن ضمن مخططاتها في تفريغ مدينة القدس من المقدسيين، عزل أحياء مقدسيّة بجدار الفصل العنصري على غرار العيزرية وأبو ديس والرام وضاحية البريد، واعتبارها خارج المدينة المقدسة، وبالتالي سحب الهويات المقدسية من أهلها ومنعهم من دخول المدينة والإقامة بها.
بالإضافة إلى بناء المستوطنات حول مدينة القدس المحتلة بشكل دائري، وضمها إلى المدينة لتكثيف الوجود اليهودي ولإعطاء صبغة يهودية للمنطقة لفرض الأمر الواقع، وتنفيذ مخطط “القدس الكبرى”، ضمن سياق “صفقة القرن”.
صمود فلسطيني
بالمقابل، أفشل الفلسطينيون محاولات سلطات الاحتلال لفرض الواقع الجديد، عبر إغلاق المسجد الأقصى، ومنع المصلين من الدخول إليه، وطرد المرابطين والمعتكفين منه، وهبوا للدفاع عن المسجد، واعتصموا على أبوابه، وأجبروا قوات الاحتلال على فتح أبوابه، والانسحاب منه ومن محيطه.
وكانت اعتداءات الاحتلال المتكررة على الأقصى سبباً في إندلاع معظم الانتفاضات، وسُمي البعض منها بأسماء مرتبطة بالقدس أو بالمسجد الأقصى؛ مثل: انتفاضة النفق (أسفل البلدة القديمة حتى جدران الأقصى)، وانتفاضة الأقصى (2000-2004)، وانتفاضة القدس (2015-2017).
وجاءت انتفاضة القدس رفضاً لمخطط تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، وشكّلت واحدة من أهم التطورات التي أقلقت الاحتلال؛ وبدت سلطات الاحتلال عاجزة عن القضاء على ما سمته “موجة الإرهاب”، على الرغم من الإجراءات والسياسات التي اتبعتها. واستطاع الشعب الفلسطيني تجاوز التحديات، ووجه رسالة للاحتلال بأن الأقصى والقدس خطّ أحمر لا يمكن تجاوزه”، بحسب مراقبين.