من الصدفة ـ ربّما ـ أن تعيش ولاية أمريكية أحداثا […]
من الصدفة ـ ربّما ـ أن تعيش ولاية أمريكية أحداثا مشابهة لما عشناه في 2010 ـ 2011 بتونس. رجل يتعرّض لمظلمة ويموت بسببها، وما تلبث الأحداث أن تتتالى وتتضخم وتنتشر نارا في هشيم جفّ منذ أمد بعيد وظلّ ينتظر من يوقده.
التاريخ أراد أن نستذكر ما كان يحدث في أمريكا منذ قرون، بلد يواري سوءة العنصرية والتفاوت الاجتماعي بين الأجناس التي تتعايش فيه بما يشبه المساواة في الحقوق والفرص، لكن، بعد كلّ عشرية أو اثنتين تبرز بعض النتوءات كالدمّل في الظهر، لا يقدر المصاب بها على هرشها ويأتي من يحكّها بعنف فتفرز ألما كبيرا للجميع.
من نسي منكم ما حدث لمارتن لوثر كنغ الذي قاد ثورة مجتمعية في شيكاغو في الستينات من القرن الماضي، وحاول جاهدا وبسلمية مهاتمية، أن يعدّل الجموح الذي اكتسح عقول مواطنيه بعد الاستفاقة من أزمة 1929 وخصوصا بعد الخروج منتصرين من الحرب العالمية الثانية، غير أنّ النتيجة كانت اغتيالا لم تندمل جراحه إلى اليوم؟
ومن تناسى منكم ما وقع في لوس أنجلوس من اضطرابات وعنف بين البيض والسود بداية من يوم 29 أفريل من سنة 1992 وعلى مدى ستة أيّام دامية، حين برّأت المحكمة أربعة من ضباط الشرطة من تهمة استخدام العنف المفرط خلال عملية اعتقال شاب أسمر يدعى رودني كنغ؟
التاريخ حفظ أحداثا من هذا النوع وأغفل أحداثا أخرى شبيهة بما وقع لرودني كنغ أو “العملاق اللطيف” جورج فلوريد الذي مات عندما وضع ضابط شرطة في مدينة مينيابوليس، في ولاية مينيسوتا، ركبته على عنقه فمات مختنقا.
الإحصائيات مفزعة، فقد أكد موقع “mappingpoliceviolence.org”الأمريكي المختصّ فيما يهمّ الأمنيين أنّ 1099 شخصا قتلوا على يد الشرطة الأميركية في مختلف الولايات الأمريكية.
هذه الأحداث توحي بأزمة أخلاقية وهوّة عميقة بين مكوّنات المجتمع الأمريكي الفسيفسائيّ، والمتمعّن في ذلك يكتشف التباعد والتنافر بين تلك المكوّنات إلى درجة أنّك تجد صناعة سينمائية للبيض وأخرى للسود، وموسيقى مختلفة أيضا باختلاف الأعراق… بل إنّ ذلك موجود أيضا بين نواتات ديموغرافية لها أصول مختلفة، فتجد من يتباهى بأنّه أمريكي إيرلنديّ وآخر بأنّه إيطالي وثالث بأصوله الأنقليزية ورابع بجذوره البوبلونيّة، في حين تبدو كتلة البيض متجانسة لأنّ عقودا مرّت على تشّكّل الكتلة المجتمعية الأمريكية الحالية.
وقد أنتجت تلك الفروق والاختلافات تصنيفا اقتصاديّا أيضا، والثروة الاستثمارية تبدو بيد البيض، والثروة المتأتية من النجاحات في عالم الرياضة والموسيقى للسود، واكتفى اللاتينيون والصينيون بالتجارة… حلالها وحرامها. كما تبرز الشروخ في الانتخابات، حيث يناصر السود واللاتينيون والآسيويون الحزب الديمقراطي أساسا، وينزل البيض الأثرياء بثقلهم لمناصرة الحزب الجمهوري.
في هذا الخضمّ، ترعرع الإحساس بالضيم والغبن عند الأعراق الأقل حظّا وهي أيضا الأقل سعيا للتخلص من عقد الإحساس بالنقص، وعادة ما تكون الجريمة والفقر والفشل الدراسي حاضرة لدى ذلك السواد المتنوع من الأمريكيين غير أوروبيي الأصول، وفي ذلك الخضمّ وبسبب تلك النقائص، تتولّد أوضاع اجتماعية تفرز أحداثا مأساوية، مثلما يحدث هذه الأيّأم في مدينة منيابوليس وسائر مدن ولاية مينيسوتا شمالي الولايات المتحدة.
ورغم تشابه كبير بين أسباب ما حدث في لوس أنجلوس سنة 1992 وبين ما يحدث هذه الأيّام في منيابوليس، وربّما في بعض التفاصيل مع ما حدث لمحمد البوعزيزي في ديسمبر 2010، إلا أنّه لا يمكن الجزم بأنّ النتائج ستكون متشابهة حتّى مع انتشار الحرس الوطني في الولاية الغاضبة، غير أنّ شهر نوفمبر سيشهد انتخابات أمريكية مرتبطة بما يحدث بسبب فيروس وكورونا وفيروس الاختلال بين الأعراق في أمريكا.
ناجي العباسي