تونس الان كثيرون يعرفون تهامي العبدولي السياسي وكاتب الدولة السابق […]
تونس الان
كثيرون يعرفون تهامي العبدولي السياسي وكاتب الدولة السابق في حكومتين، ولكنهم لا يعرفونه مفكرا وباحثا وأستاذا في الجامعة التونسية وأستاذا زائرا في عدد من الجامعات في الشرق والغرب، فيما بين جامعة سوسة وجامعة الحكمة “صوفيا” بطوكيو إلى جامعة دمشق، وجامعة نيس، وكاتانيا ولنك وجامعة روما الثالثة بإيطاليا وإيموني بسلوفينيا وليدن بهولندا وواست منستر والآغا خان وقلاسكو كاليدونيا ببريطانيا. إضافة إلى تحمله مسؤولية الإدارة العامة لمؤسسة الثقافة العربية “البابطين” بالكويت، وهو كذلك مؤسس علم المسائل المتوسطية الذي يشتغل عليه مع فريق بحث متكون من عدد من الباحثين في جامعات دول المتوسط.
للدكتور العبدولي عدد من المؤلفات بالعربية والإنجليزية، وبعضها طبع أكثر من طبعة، وهي النبي إبراهيم في الثقافة العربية الإسلامية، عن دار المدى، دمشق 2000. وأزمة المعرفة الدينية، دار البلد، دمشق 2005، وكتاب بالإنجليزية بعنوان “الملكية والمجتمع في المغرب” Monarchy and Society in Morocco سنة 2006، وإسلام الأكراد، قراءة في تداخل الديني والقبلي والقومي، دار الطليعة، بيروت، 2009. والموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية: جائحة كوفيد-19. دار نينوى، دمشق، 2022. وغيره من المقالات المنشورة بالعربية والإنجليزية.
وقد أرادت “تونس الآن” أن تحاوره في خصوص الكتاب الأخير لأنه اُعتبر من بين الكتب الأهم في سنة 2023.
س – قيل هذا الكتاب تأسيسي، فهل المقصود الجهد الذي سعيتم إليه بالبحث في الظواهر الطّارئة كما في هذا الكتاب ” الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية “؟
- بالتأكيد ليس القصد بـ ” التّأسيس ” أن لمْ يُسْبَقْ هذا الكتاب بصنوٍ أو ندٍّ أو مشابهٍ في قراءة ” الأوبئة “، ولا في قراءة أيّ ظاهرة طارئة تطرأ في الاجتماع البشري، بل تأسيس منْهج في القراءة الواعية بموضوعها أي بالحدث الطّارئ ، تحدّد أسبابه وآثاره في الثّقافة ، وما به يعمل اختلافُ مكوّنات الثقافة عمله ، حتّى ليبلغ مبلغ الخلاف ، بل الموت . لذلك قلنا “لا يمكن لدارس، وهو يفكر في مثل هذا الموضوع، أن يدّعي اعتماد منهج لساني أو اجتماعي أو نفسي أو ما قرّره تاريخ الأفكار أو المنهج الأنثروبولوجي ، لسبب بسيط ، هو أنّ الظّاهرة المدروسة أعمق ، ولا يمكن الاكتفاء في دراستها بمنهج واحد ” . ولعلّ التّأسيس يظهر في هذا الوعي بالحاجة إلى “تأسيس ” منهج قادر على الإلمام بالظواهر الثقافية، ومعالجتها معالجة أكثر ثراء، ومصداقية، وعلمية.
- العنوان صادم ومغر في نفس الوقت بالمتابعة والقراءة، فلم اخترته على ذلك النحو؟
- إن أوّل ما تقع عليه العين في أيّ كتاب عنوانه. والعنوان في الواقع اسم للكتاب ينبئ بثقافته وجنسه ووظيفته، وقد ينبئ بأكثر من ذلك. قد يكون جزءا من هويّة صاحبه، يعبّر لا فقط عن حالته عبوسا، أو انشراحا، أو لامبالاة وبرودا، أو هو خليط من بعضها أو من كلّها، وهو نفسه ما يظهر فيه موقف حامله من محيطه، ومن الآخر ومن قضيّته. فكما للوجه قسمات تتشكّل للتعبير، فللعنوان ألفاظ تُسبك للإنباء والتّبشير بالمحتوى والصّياغة، في حِقّة ودقّة وإيجاز وإيحاء وتكثيف. ولا يخفى على فطن ما يحمل العنوان من تشويق وشدّ للقارئ حثّا له على القراءة، وإلهام صّبر له على مشاقّ فكّ الشّفرات وإدراك ما يجب أن يتمّ إدراكه. فالموت هو آخر مطاف العذاب والرّخاء والتّقلّب في الحياة، لا نهاية بعده ولا بداية – في عالمنا الدّنيوي حتّى لا يُساء الفهم – وهو آخر ما يمكن أن يصيب الحيّ وأشدّه قسوة وأبعده نهاية وانتهاء. والموت عام يصيب الفرد والجماعة والجميع وهو لذاك – ولغيره – أكثر ما يشدّ الانتباه، ويثير الفكر، ويحرّك السّؤال. ولكنّه يصبح أكثر إثارة للعجب إذا تسبّب فيه الحدث تسبّبا مباشرا، وأحدثه في الأحياء إحداثا. لذلك فأن يكون موتٌ بين بيروقراطية ومصلحة سياسية لإشكالٌ لا تقوى العقول على قبوله وإن سلّمت به. قد نتحدّث على أنّ للموت ثقافة، بل قد يذهب بنا سياق هذا الكتاب إلى القول إنّ الموت ثقافة كما أن الثقافة هي الحياة، إذ لا شيء في الحياة إلاّ وهو من الثقافة. أمّا الموت كما صوّرناه في هذا الكتاب فحدث يحدث بين البيروقراطية والمصلحة السياسية. إنه انتقاء ما يناسب المعنى من المعجم. ولنبشر القارئ بإجابات شافية كافية عن تساؤلهم عمّا عليه تكون صور الموت بين البيروقراطية والمصلحة السّياسية. وكلّ ذلك نبرهن عليه ونشرحه ونفسّره ونشرّع القول فيه بفرع العنوان ” جائحة كوفيد 19 “. نعم، يمكن أن يموت البشر – وغيرهم – بين البيروقراطية والمصلحة السياسية، ودليل ذلك “جائحة كوفيد 19 “.
- الديباجة كانت خاصة جدا، لم نتعود مثلها في الكتب العلمية؟ لم كتبتها بتلك الصيغة؟
- جعلنا الدّيباجة إجابة على سؤال المشروعية التي يحتاجها القول ويتطلّبها البحث، فصَوْغُها بضمير المتكلّم يحدث شجنا وألما شرّعا للبحث ووضعاه في إطاره العلمي – البشريّ. وهي من هذه النّاحية لفتة تقرب المسافة بين الكتاب وقارئه. قلنا في الدّيباجة بعد سرد وقائع ما أحدثته الجائحة فينا من أثر: ” هكذا، هي بعض وقائع كنت شاهدَ عِيانٍ فيها على ملامح استجابة بشرية للجائحة، معطوب بعضها، وسليم بعضها الآخر”.
س- وكذلك هي المقدمة وما كان حول المنهج؟
ج- المقدّمة هي عقد على أن يكون البحث على ما كان عليه، وعقد على أن تكون الصّياغة على ما كانت عليه، وعقد يُنْتَظرُ أن يُمْضي عليه القارئ، فيلزم قراءة تناسب المقروء، وفهما يناسب البحث. وليس من المفيد تفصيل القول في المحتوى إذ ربما غاية الغاية من هذا الحوار أن يُدفع القارئ إلى اكتشاف ذلك بنفسه. وأمّا فصل ما ” في المنهج ” فهو الوجه التّنفيذي لذلك العقد الممضى في المقدّمة ، تصريح بـ ” كيف أفكّر وكيف أقرأ ” ، ومسكوت عنه هو ” كيف تقرأ وكيف تفهم ” . لذلك قلت ” إنّ دراسة ظاهرة اجتماعية أو حدث تاريخي أو قضية سياسية أو مسألة فكرية هي في المقام الأول محاولة التفكير فيها تفكيرا موضوعيا، غايته التحليل والتفسير واستخلاص النتائج ثم القواعد الخاصة مجردةً، وذلك لا يعني مطابقة حقيقة الموضوع المدروس تمام المطابقة، لأن الحقيقة أصلا متعددة متغيرة حسب وجهات النظر، وصواب التفكير كونُه ممكنا وتفهّميا “.
س- هل من تفصيل حول المنهج؟
ج- حرصنا في ذلك على أمرين هما ما ينتظمان الكتاب باعتباره نصّا متكاملا مستقلاّ. منطق التطّور الذي يحكم سير الصّياغة، فالبدء كان بالأسباب، وصولا إلى المجابهة حتّى بلوغ الآثار في مسألتين هما انزياح ثقافة النّظام العالمي الجديد، إلى نظام يسعى إلى الخلاص من القطب الواحد الأوحد، وبحثا عن نظام عالمي متعدد الأقطاب. والأمر الثاني جعلنا خاتمة لكلّ فصل تجمل ما ورد فيه في الظّاهر أو هي لزوم أكاديمي، والحقيقة أننا جعلناها تساعد على توجيه الفهم في عمق الحقيقة، وتمهّد السبيل لإدراك التّرابط الفكري بين الفصول، فتنتقل القراءة من فصل إلى آخر وهي تقف على متانة ما بلغه البحث من نتائج تلملمها الخاتمة.
وتظهر العلاقة بين منهج التفكير ومنهج الصياغة في ذلك الحرص منا على البناء على ما سبق ومن سبق. وقد عبنا على ما سبق ومن سبق الاكتفاء بالوصف والجمع إلاّ ما قلّ وندر. فأقمنا البحث على الاستقصاء وجمع الأدلّة والوقائع والأقوال، وإعادة ترتيبها ليتسنى تحليلها في أسئلة إشكالية تحيّر الباحث أكثر ممّا تفعل بالقارئ. فهل للجائحة أسباب مثلا؟ لم يكن همّنا الانخراط في ذلك اللغط الذي دار حول اصطناع الفيروس أو طبيعته، وإنّما عمّقتا البحث في مسائل أخرى أبلغ في المعالجة والاستقصاء. من ذلك مثلا أن أحصينا معظم ما قال العلم في التنبّؤ بالكارثة، ولمَ أهمل قول العلم؟ فهل يعقل أن تقع جائحة بهذا الحجم في القرن الواحد والعشرين دون أن تتنبّأ المعرفة العلمية بها؟! ودون أن تعدّ ما به تحتويها؟ أم إنّ في الأمر تعمّدا للتّجاهل؟ وغير ذلك من إشكاليات تفهّميّة طرحت في استقصاء أسباب الجائحة، نسكت عن ذكرها حتى لا نحرم من يروم القراءة اكتشافها بنفسه.
س- كيف حددتم التعثر في مجابهة الجائحة؟
ج- لم نسع فقط إلى البحث في التّعثر في مجابهة الجائحة، بل جمعنا بحكم اطلاعنا على الأدلّة والوقائع بغرض تفسير هذا التعثّر، والبحث في ما يخفيه بدل الاكتفاء بوصف ما يظهر منه. ومثال ذلك بيروقراطية النّظام الصحّي في فرنسا، فالمقابلة بين ما تحدثه البيروقراطية من بطء بسبب غبائها الأفقي، مكاتبها ووثائقها وإمضاءاتها وممثليها …، واستبلاهها للخلق عموديا، هرميتها وصعود القرار طوابق عديدة ونزوله … وبين سرعة انتشار الوباء، وفتكه بالخلق فتكا مبينا كما حدث في إيطاليا مثلا. فسرنا ذلك بثقافة المواجهة التي كان عليها أن تجدّد مكوّناتها، فتنسّبها تنسيبا يناسب هول الجائحة، وبشّرنا بتغيير ومراجعات قد تصيب يوما مّا ثقافة مواجهة الكوارث.
س- والنظام العالمي الجديد الذي نقدتموه نقدا موضوعيا ولكنه في باطنه ساخر حد الاستهزاء؟
ج- نعم، هذا صحيح، كان ذلك في الفصل الثالث فقد استنتجنا من الفصلين السّابقين انزياح الثقافة الإنسانية عن النّظام العالمي الذي أمسى وكأنّه عقيدة يدين بها الجميع. فالجائحة قد وضعت ذلك النّظام موضع السّؤال والشك. فمن يتحكّم في سياسة الجائحة واقتصادها وثقافة الإفادة منها؟ والغريب المستغرب أن يغادر هذا النّظام العالمي ساحة المواجهة، ويتجه بكلّ أسلحته إلى البحث عن موطئ قدم في بلاطات التحكّم في العالم وحياة النّاس. ألم يدع بعضهم إلى ثقافة القطيع مصرّحا: علينا أن نستعدّ لفقد بعض أحبابنا؟ ولكنّه حين أصيب وظّف كل إمكانات شعبه لعلاجه ونقاهته. هذا فيما يعكسه هذا النّظام داخليا، أمّا خارجيا فقد ظلّ رئيس الولايات المتحدة التي كانت الإحصائيات تضعها في المرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيات، يردّد ” الفيروس الصّيني ” حتّى دعا قومه إلى شرب سوائل ومواد التنظيف للوقاية والعلاج. في كلّ ذلك سعي إلى تحويل الأنظار والجهود من مجابهة الفيروس إلى مجابهة بين القوى التي تريد إمّا الدّفاع عن النّظام العالميّ القائم، وإمّا التبشير بنظام عالميّ جديد. بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل التّسابق في المسك برقاب الدّول العاجزة أصلا عن مواجهة الفيروس، وما صاحب ذلك من زلات أخلاقية صارخة. وخلصنا إلى موضوع الفصل الرّابع النّاتج منطقا – كما أسلفنا – عن تحليل ما سبق، فكان: الجائحة من القطب الواحد إلى تعدد الأقطاب، وهو فصل يوضّح أنَّ تعثّر المواجهة أدّى إلى إرساء ثقافة جديدة لا في مواجهة الكوارث، بل في تعدد الأقطاب في التسيير أو التحكّم في العالم، حتّى جاءت الحرب في أكرانيا فدعّمت ما توصّلنا إليه!
س- استوقفتنا كثيرا اللغة والجهاز المصطلحي خاصة عصريتها ومصطلحاتها؟
ج- عصرية اللغة تتجلى في المقدّمة و ” في المنهج “، وخصوصا الخاتمات الفرعية، والنّهائية. وتتجلّى في التفصيل، والإسهاب الذي يوظّف الأمثلة بواقعية بيّنة، نقصد أن نورد لغة الساسة وطرق تعبيرهم ولغة القادة في الطب والإعلام ولغة مواقع التّواصل الاجتماعي منسجمة تماما مع لغة الكتابة والتّحرير، فتزيد بذلك مصداقية التّحليل والتفسير. وأمّا المصطلح فله شأن آخر تماما. إنّ بناء جهاز مصطلحيّ، واختراعه بحثا عن الدقّة في دلالة الدالّ على مدلوله، وارتقاء بالبحث إلى مصافّ العلمية لأمر يحتاج إلى نظر. فقد عمدنا إلى إرساء هذا الجهاز المصطلحي باستخدام ما توافر منه في ثقافة المعرفة أينما وجد ذلك المصطلح، وسعينا إلى ترجمة ما احتاج ترجمته من لغات أخرى، وسعينا أحيانا إلى اختلاق مصطلحنا الخاص بنا نحتا واشتقاقا كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
س- هل يمكن عرض الفكرة المحورية؟
ج- الفكرة المحور، أو القضيّة المدار التي تنتظم القول في الكتاب هي حول الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية، وبرهانها وأسّها الأساس ومثالها البائن ما حدث في جائحة كوفيد-19. فكأنّ الجائحة قد أصابت الحضارة في نواتها حتّى أملت على الثقافة أن تغير مسارها، وتعيد تشكيل مكوّناتها لتنتج ثقافة أخرى تعيد صياغة النّظام العالمي الجديد المتجدّد المنزاح … من قطب واحد إلى أقطاب متعدّدة، وربّما تسفر الحرب في أكرانيا التي أعقبت الجائحة وربّما استثمرتها بأي وجه من الوجوه عن نظام عالمي بصيغة أخرى مخالفة تماما. والفكرة أيضا أنّ الجائحة – والكوارث عامة – تجبر الثقافة البشرية على الخضوع إلى عائق وقطائع معرفية تمكّنها من إعادة بناء الحضارة، وما ذاك إلاّ بحسب درجة عنف هذه الكوارث، وطرق التّعامل معها. إنّ تحوّل الثقافات الرّائدة والقائدة للعالم – كما تطرح نفسها – من مجابهة جائحة إلى مجابهة بعضها البعض، قد جرّها فعلا إلى تسويغ الموت، والدّعوة إلى التّسليم به، وكأنّ بقاء هذه الثقافات في ريادتها وعلياء مصالحها مقدّم على سلامة الشعوب وبقائها على قيد الحياة.
س- يقتضي منهج التّأليف منهجا في التفكير يستثمر ثقافة الكاتب المنهجية العميقة فيتحرّر من استعباد منهج واحد إلى توظيف المعارف جميعا في البحث حتى يطابق البحث موضوعه وهذا ما فعلتم. لقد حولتم ضوابط المناهج في تعدّدها إلى محصول ثقافي لديكم، وقد مدكم ذاك بزخم من أدوات التحليل والتفسير نسمّيها قراءة الواقع قراءة منهجية. وما أكثر ما بدا ذلك هاجسكم، فهل من هواجس أخرى.
ج- بالنسبة إلينا لا تستقيم نسبة بحث إلى باحث إلاّ بأمرين: الجدّة والذات. فأمّا الجدّة فهي جدّة الطّرح، وجدّة التفكير والتّناول، وكل ما يستقيم به بناء البحث. وأمّا الذات فهي الفكر والمنهج واللغة بما هي عمق الرؤية والقراءة، وحقيقة الفكرة ومطابقتها واقعها، والجهاز المصطلي الذي هو عمدة التّنظير إلى جانب المنهج. وذاك هاجس أساسي.
س- نريد أن نخلص معك إلى جوهر الجوهر؟
ج- كنا كتبنا أن ” رأس أسباب هذا التدهور ومسبب الأسباب، ذلك الانحراف عن أداء الوظيفة نحو ممارسة السلطة. والوظيفة، وهي مرتبطة بالنظام الاجتماعي الذي أسسها، تعني «علة وجود الشيء»، وما يتوقف عليه وجود الشيء، والدور الذي يؤديه كيان ما، أو جسم ما، أو مؤسسة ما، أو شخص معين، في إطار جماعة ومجتمع وفي نسيج بناء معين بما يناسب اشتغاله. ومن المفروض أن الموظفين البيروقراطيين في مكاتبهم وفق مفهوم البيروقراطية الأساسي، وأن السياسيين في مناصبهم السياسية طبقا لمهامهم يؤدون وظائفهم في تناسق مع القواعد العامة المنظمة لاشتغال دولةٍ معينة أو لاشتغال النظام العالمي عموما، لكنّ ما كان من كليهما، هو ذلك الانحراف عن أداء الوظيفة المتمثلة في خدمة الشعوب، نحو ممارسة السلطة. ولما عمت الجائحة العالم، انكشفت المعضلة الكبرى: عالم قائم على سلطتي الموظف البيروقراطي والسائس الساعي إلى المصلحة وليس قائما على مقتضيات وظيفة كليهما.
إذن كما كتبنا “لقد حدَثَ الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية كما حدث بشكل مروع، لأن الموظفين البيروقراطيين صاروا مرتزقة، وجعلوا النظام الإداري وقفا على مصالحهم، ولأن السياسيين، وهم الوجه الآخر للارتزاق، جعلوا مناصبهم مداخل إلى ممارسة سلطة تستهدف ضمان استمرارية المصلحة حتى حُجبت الوظيفة بالسلطة البيروقراطية وبسلطة المصلحة السياسية.
وكتبنا أيضا إنه “في هذا الحيز الزمني من عصرنا، وقيادة العالم أحادية كانت أو متعددة الأطراف، لا تؤدي وظيفتها في حدود مربع الوظيفة وتمارس السلطة بكل سوءاتها وخطاياها وكبائرها، نكتشف أننا نئنّ من وطئة أربع جوائح: كوفيد- 19 والبيروقراطية والمصلحة السياسية والنظام العالمي الجديد، والجامع بينها جميعا تلك «السلطة القاتلة».
ولعل لب القول الذي يجب عدم إغفاله دائما أنه “في الواقع لم ينقل الفيروس تلك السلطة إلى نظام مدني كما كنا نأمل، فطيلة سنتين ونصف، كانت تصارع بضراوة كي لا تفقد موقعها، وسرعان ما أعادت التمركز في نفس الأيادي، وحين ظننا أنها تنهار وأنّ شمس سلطة أخرى ستشرق وستكون ألطف وأرفق، عادت مخاوفنا وهواجسنا وتعمّم الإحباط… «إنّهم» ببساطة، أعادوا تدويرنا مثل النفايات”.