منذ بضعة أيام كتبت حول جريمة الاغتصاب وخطورة تقاطعها مع […]
منذ بضعة أيام كتبت حول جريمة الاغتصاب وخطورة تقاطعها مع جريمة انتهاك الحرمات عبر وسائل التواصل الاجتماعي…ثم واصلت التفكير في مقال الأسبوع الماضي حول نفس الانتهاكات ولكن في المجال السياسي وختمت مقالي بالتساؤل عن الماهية التي نعتمدها في حماية القيم الأخلاقية…هل أخلاقنا أم أخلاقهم؟…والمقصود هل أخلاق الشرق أم أخلاق الغرب؟ وهنا تستحضرني مقولة ذاك الشيخ الفاضل محمد عبدة الذي قال بعد مشاركته في مؤتمر باريس سنة 1881 “ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت للشرق فوجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاما”!…طبعا محمد عبدة لم يخطئ في انطباعه ولكنه أيضا لم يصب.
لم يخطئ لأنه ذهب إلى الغرب وفي ذهنه ما يعيشه العرب والمسلمون في تلك الحقبة من تخلف سياسي وتقهقر اقتصادي وانحطاط اجتماعي زاده الاستعمار الفرنسي والانقليزي الترابي والفكري والحضاري شدة على شدة. ولما سافر سنة 1881 إلى باريس كانت فرنسا قد مرت على ثورتها التاريخية التنويرية 1789 ما يفوق القرن من الزمن.
ورغم ما شهدته البلاد منذ ثورتها تلك من اضطرابات سياسية عنيفة وصلت إلى حد الاستبداد والدكتاتورية وانتهت بالتوسع اللاحق للإمبراطورية عبر الاستعمار، رغم كل ذلك فقد ساهم شعار الثورة الذي رفع قيم “الحرية والمساواة والإخاء ” في إحداث تحولات عميقة في فرنسا وأوروبا عامة من أشهرها إسقاط الملكية أي الحكم المطلق وتأسيس نظام الجمهورية وإلغاء الإقطاع وإعلان حقوق الإنسان والمواطن. وأقرت فرنسا في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر تشريعات تضمن مجانية التعليم الابتدائي وحرية الصحافة وشهدت بعد ذلك انتخابات دورية للتداول على السلطة سلميا في اغلب الحالات. كل هذه التحولات السياسية منها والاقتصادية مكنت الغرب عامة وفرنسا خاصة من حقوق وحريات للشعب ومكاسب اجتماعية جمة غيرت من نمط حياة الإنسان وسلوكياته وطبائعه.
ولعل مثل هذه المكاسب هي التي كانت من العوامل التي أبهرت الزائر القادم من الشرق الحائر وتجلت له منها المقاصد الشرعية لجوهر الدين الإسلامي بعيدا عن قشوره وتمظهراته المتخلفة السائدة في الشرق التي زادها بلة في المحيط الإسلامي اختلاف الملل والنحل وغياب الاجتهاد المبدع وتفشي الخرافات والتقاليد البالية بدلا من انتشار العلم والمعرفة وترسيخ قيم الحرية والعدل والمساواة.
هنا لم يخطئ محمد عبدة فيما ظهر له من تجليات الإسلام في بلد لا يقطنه المسلمون بل شعب خليط من المسيحية واليهودية والعلمانية والإلحاد. ولا نراه مخطئا لو ذهب في تلك الأيام إلى المقارنة بين ما يعيشه “الرجل المريض” في عهد أخر خلافة إسلامية وبين ما يعيشه “الرجل الغربي” من تقدم صناعي وثورة علمية في مجال الكيمياء والفيزياء والطبّ بما مكن من تحقيق مكاسب كبيرة للمواطنين في كثير من مظاهر الحياة في أوروبا مثل تراجع الأوبئة والأمراض ومن تقدم تكنولوجي شمل العديد من القطاعات على غرار النقل والمواصلات والنسيج.
ولا نراه محمد عبدة مخطئا لو التفت إلى أخلاق المسلمين ولا سيما قادتهم وقدوتهم وما يحاك وراء قلاع الحكم من دسائس وجرائم تقشعر لها الأبدان. وتاريخنا الإسلامي الطويل مليء بشتى أنواع السلوكيات التي تجسم أعلى درجات الحماقة والغدر والخيانة والحقد والأنانية. ولنذكر هنا فقط تلك العادة الشنيعة في الخلافة العثمانية والتي يتم بموجبها القادم للسلطة القضاء على كل منافسيه. فعلى سبيل المثال، قام السلطان العثماني مراد الثالث (حفيد سليمان القانوني) يوم توليه الحكم في اسطنبول سنة 1574 بقتل إخوته الأمراء الصغار الخمسة حتى لا ينازعوه السلطة. وبمجرد وفاته سنة 1595 بادر ابنه محمد الثالث بإتباع نفس التقليد إذ أعدم خنقا إخوته الذكور التسعة عشر وأخواته الإناث الست وعشرين. وغير بعيد عنا تولى مراد الثالث (التونسي هذه المرة وهو مراد بن علي آخر البايات المراديين) السلطة في تونس سنة 1698 بعد أن أفتكها بثورة ضد عمه وقتل إخوته. وكان سفاحا جبارا مستبدا له سيف يسمى “البالة” فعُرف بكنية “مراد بوبالة.” ولا يقل عنه فظاعة العديد من الدايات والبايات الذين تولوا الحكم إلى أن مهدوا الظروف الملائمة لقدوم الاستعمار إلى تونس سنة 1881 وقبلها إلى الجزائر سنة 1830.
هذا غيض من فيض، ولا فائدة من الحديث عما يزخر به تاريخنا من بطولات ورجولة وما يتحلى به الرعاة السابقون من خصال الشجاعة والنخوة والأنفة والنبل والكبرياء والكرم والأمانة، فالشق الآخر لا يخلو من رذائل الغدر والكذب والحقد والسرقة والخلاعة والمجون إلى حد السفالة، فضلا عما ينوء به كاهل الرعية من حمل الجبن والذل والخضوع والهوان.. وبينما فاتنا الغرب وأقصى الشرق، بما فيهما المسيحي واليهودي والملحد والبوذي، بصنع السيارة والقطار والطائرة والصاروخ والراديو والتلفاز والهاتف الثابت والجوال والذكي… عرفت في المقابل “خير امة أخرجت للناس” كل أنواع الأنظمة السياسية من النظرية الأولى والثانية والثالثة، الملكية والجمهورية والجماهيرية إلى الاستبداد العسكري والمدني، ومن الاشتراكية والقومية إلى الليبرالية الناعمة والمتوحشة ، ولم تقدر في تاريخها الحديث والمعاصر – رغم مرور عشرات السنين على استقلال شعوبنا من الاستعمار الداخلي والخارجي- على صنع اختراع واحد يبهر العالم، ولم تقدر إلا على مزيد بث الفتنة بين الأمة الواحدة، فظهر الإسلام الشيعي والسني والسياسي المعتدل والراديكالي والداعشي، وبقيت أخلاقنا تلهث تحت سياط البحث عن لقمة العيش وخدمة المصلحة الذاتية والعمل بمقولة الأقربون أولى بالمعروف.
محمد عبدة لم يخطئ لأنه أبهِر بما أثمرته ثورة حقوق الإنسان والمواطن داخل حدود الغرب من مكاسب، ولكنه بالقابل لم يصب لأنه تغاضى في حكمه عما أثارته تلك الثورة من مآس وكوارث في بقية العالم ومنها إفريقيا وآسيا. لقد دفع النهم الغربي إلى التوسع الجغرافي للإمبراطوريتين الفرنسية والانقليزية عبر احتلال المستعمرات وانتهاك سيادتها ونهب ثرواتها. وفيما حرصت على فرض احترام القانون في حدودها لفائدة شعوبها، تواصل نهمها في الحاضر (بعد الحرب الكونية وصعود القوة الأمريكية) عبر نشر الفوضى والفتنة والحروب خارج حدودها ولا سيما في العالم الإسلامي.
ولم يصب محمد عبدة أيضا عندما غفل أن جوهر الإسلام الذي وجده في الغرب ليس في انتشار العقيدة الدينية بالذات وإنما في تكريس دولة القانون والمؤسسات التي باتت مع مرّ السنين هي المنظومة المثلى في سياسة الشأن العام الغربي وفي نحت سلوك المواطن هناك بما يجعل منه ذاك الواعي المتمدن المتحضر الذي يؤدي عموما ودون مخاتلة واجبه العسكري والجبائي والانتخابي، والذي في معظمه يخشى عقوبة القانون وردع المؤسسات فلا يكذب على السلطة ولا يقدِم على سرقة جاره أو انتهاك الضوء الأحمر في الطريق أو إلقاء قمامة في الشارع. ذلك هو سرّ الحضارة الغربية بعد أن ضمنت الدولة حقوق المواطن وكرامته وتقدمها على صعيد العلم والمعرفة.
وبالمقابل وجدت أمم الغرب في العالم الإسلامي كثيرا من المسلمين الذين لا يؤمنون بدولة القانون والمؤسسات ولا يحركهم في إدارة الشأن العام سوى هاجس السلطة والوصول إليها في أقرب وقت ممكن وبأية وسيلة كانت، فعملت على مواصلة نهج الإمبراطوريات التي سبقتها… بلا أخلاق ولا هم يحزنون. وهنا أختتم بمقولة وزير الخارجية الأمريكي مايك بامبيو في جامعة تكساس يوم 15 افريل 2019 ردا على سؤال حول دبلوماسية بلاده حيث أشار إلى تجربته على رأس وكالة المخابرات الأمريكية قائلا: “عندما كنت في بداية مهنتي كان شعارنا لا تكذب لا تغش لا تسرق… ولا تسمح لغيرك القيام بذلك، وعندما أصبحت مديرا للمخابرات كذبنا وغششنا وسرقنا… وكنا مدربين تماما على ذلك”.
هذا ما قاله أحد ساسة الغرب حسبما أوردته صحافة الغرب ذاته… وبقينا نحن نبكي على الأطلال… ونبحث عندنا عن الإسلام أو القانون، فلا نجدهما، إلا فيما قل وندر.
علي الجليطي