بقلم : عبد الرؤوف بوفتح منذ سنوات طويلة ،، توقفت […]
بقلم : عبد الرؤوف بوفتح
منذ سنوات طويلة ،، توقفت عن طباعة مخطوطاتي الشعرية والنثرية وبعض الدراسات الادبية والثقافيةالمختلفة الاغراض بسبب نهم وجشع ومكر أصحاب دور النشر واستغلالهم الفاحش لمعشر الادباء واهل الفكر عموما.
اذكر ، وانا في بداياتي ، ومع ارهاصاتي الابداعية المشتعلة ، جلست رفقة صديقي العزيز والشاعر الكبير : “عبد الله مالك القاسمي” ( يرحمه الله)،، جلسنا ذات صباح خريفي غائم الى شاعر تونس الكبير ، المرحوم “الهادي نعمان” وقد تقدم به العمر ، وغمره يأس خفيّ .. فسألناه بحماس وزهو المراهقين :
– لماذا اكتفيتَ ، وانت شاعر كبير لا يُشقّ له غبار ، باصدار مجموعة شعرية يتيمة طيلة مسيرتك الابداعية ،،
في حين نجد الكثير من الشعراء الذين اتوا بعدك بسنوات وامتلا بهم المشهد
الثقافي ببلادنا من كل حدب وصوب ودون جدوى.. نجدهم ينشرون اعمالهم في كتب منمّقة وزاهية بصفة دورية..ودون توقف.
– تنهد الرجل عميقا..ثم اجابنا بعد فترة صمت مريب :
– هل تعلمان.. ان مجموعتي الشعرية اليتيمة التي تعرفانها والتي اصدرتها منذ عقدين من الزمن.. قد بعت من أجلها بعض اشجار زيتون تركها لي والدي بمسقط راسي ، وهي كل ما ورثتُه عنه يرحمه الله..ولم يبق عندي ما ابيع لاصدار مجموعة ثانية.
لم نتردد في الارتماء على شاعرنا لتقبيله بحرارة فيها الكثير من القهر والحزن..ونحن نردد :
لا تحزن شاعرنا الكبير..ان ” أرتير رامبو” شاعر فرنسا العظيم اكتفى بنشر مجموعة يتيمة لا تتجاوز العشرين صفحة.. ومع ذلك فهو ما زال محل اعجاب ودهشة النقاد واهل الفكر والقرّاء في وطنه وخارجها والى يومنا هذا..اذ ليست العبرة بالوفرة..بقدر ما هي : ماذا اردت ان تترك في رسالتك للناس..؟
فالادب رسالة نبيلة كما تعلم..ولا بد لها من بصمة مضيئة عميقة لا تزول..!
وقبل ذلك بسنوات..تحدث اديب تونسي اخر..وهو الشاعر الكبير ايضا “مصطفى خرَيْف”
– يرحمه الله-
وهو سليل عائلة عريقة في الفكر والشعر والرواية..تحدث قال:
– كنت ، كلما قمت بطباعة كتاب جديد على نفقتي ،، احمل كميّةع النسخ كافة الى بيتي ، واتولى صباح كل يوم أخذ عشرين نسخة في “قُفّة” من سعف النخل ،، وأظل اجوب الانهج والشوارع.. وأوزع على كل من يعترضني..نسخة من مجموعتي الشعرية ومعها دينار في ذلك الوقت..( يعني ازيد من جيبي)..
فيتعجب كل شخص من تصرفي..بل يخالني معتوها او مجنونا..وحين يسالني احدهم مستغربا :
-لماذا تفعل هكذا يا رجل..؟!
اقول له :
– لقد كانت لنا واحة نخيل، وكان أبي يرحمه الله ، يقوم بعد جمع صابة التمور كل عام ، بتوزيع خراجها على الفقراء.. اليس شعب بلادي فقير الى المطالعة وجائع الى المعرفة…
ان المعرفة. اشدّ حلاوة ومنفعةوانفع غذاء من التمر ..؟!
– امّا بعد :
كم نشر المتنبي مثلا من كتاب له في حياته..بل هل كانت توجد مطابع ودور نشر اصلا..في عصره..؟
وكيف ملأ الدنيا وشغل الناس مشرقا ومغربا دون امسيات او ملتقيات او معارض او تظاهرات شعرية ودون حضوره او معرفة ملامحه بالاساس.. وغيره كُثر..؟!
– ان دُور النشر الان تتهاتف على كل من يسبّ ويحتجّ.. ويكتب في اغراض الجنس والدعارة..
ويتبرّم من الاديان..وحتى من الله.
وان وجدتَ كاتبا مشهورا او شاعرا معروفا او روائيا يشار اليه بالبنان.. فاعلم انه ملفوف في قماطة قضية معينة..او مدسوس من طرف صالونات بعينها.. او حامل بيارق غزوة عشيرة اديولجية تسنده وتقف وراءه وتدفعه لمزيد الحماسة والشتيمة والتبرّم والصراخ.
هذه الفئة ..هي التي تسيل لعاب الناشرين بالذات ،فيندفعون دون تردد لاحتوائهم وكسب مودتهم وارضائهم وطبع اي سطر يكتبونه.
ان اي الناشر في النهاية..هو صاحب رأس مال..وكما تعرفون..فان صاحب راس المال جبان..خاصة في عالمنا العربي الذي يعجّ بالفقر..والخصاصة.. والمرض والجهل.
اعطوني اي شخص في وطننا العربي.. يحرم نفسه واولاده من الخبز والملبس والدواء..ويذهب لشراء كتاب.
ان حاجة القارىء العربي اليوم..تكمن في الاكل والملبس والصحة..والركض يوميا وراء متطلبات معيشته التي اصبحت لا تطاق ..واخر همه وهاجسه هو مطالعة وشراء كتاب.
لقد ولّى زمن طباعة كل يوم كتاب في بغداد او القاهرة او دمشق او بيروت وتونس… ذلك ان الدولة كانت تتولى صناعة الثقافة لاغراض حكامها والترويج لاديولجية احزابها.. وصناعة المزيد من الاوهام للقطيع.. وهي لم تخلّف لدى الاجيال المتعاقبة سوى اليأس والبؤس..والقطيعة و الجهل والفراغ.
عن اي دُور النشر نتحدث..؟؟ وهم اليوم مثل مقاولي البناء .. لا هَمّ لهم سوى جمع وتكديس المال لمزيد شراء الحديد والاسمنت والربح الوفير.
نحن امة لا تقرأ بالاساس..وأغلب الذي تلقفناه ..ادبيا.. فكريا..ثقافيا..وحتى دينيا..هو بالوراثة..او مترجم.. منقّح ومزيد عليه..بل ان بريق ومحتوى حضارتنا وصل الينا بالسّماع.. وليس كتابة.
معظم الناشرين في الوطن العربي يتعاملون بحفاوة واحترام شديد وبالمجّان.. مع مذكرات راقصة او مغنية كباريهات او لاعب كرة قدم ..وفي افضل الاحوال مع كتب الطبخ وفضائح الصالونات.. ويتسبلهون اي اديب وكاتب .. بل بطالبونه بدفع مبلغ على الحساب.. قبل طبع الكتاب..وما يتبع ذلك من استغلال لحقوق التاليف الفكرية والمادية..طيلة حياته وبعد موته.
باختصار شديد.. نحن نكتب لمجتمع لا يقرأ.. بل نظل مثل ماء الابريق ..يصلح للوضوء مرة واحدة..ثم يسكب في الخلاء مباشرة ..او كمن يسكب الماء في الغربال.
عبد الرؤوف بوفتح