بقلم/ نوفل نيّوف …الجمعة 13 آذار. تقاطُعُ شارعَي سان ماتيو […]
بقلم/ نوفل نيّوف
…الجمعة 13 آذار. تقاطُعُ شارعَي سان ماتيو وميزونُّف. شايٌ صينيٌ أخضر. ظاهرٌ سُكَّرُ خصرك فيه. طاولات متفرّقة. يحيط ببعض منها أشخاص يتطاير قطنُ همهماتهم وماءُ ضحكاتهم بإيقاع نسائيٍّ غريب. عبر زجاج المقهى الواسع يلعب غروبٌ نسيم. بَرْد الرذاذ ناعسٌ بليد. تكره لبيبة يحيى (لم يعجبني اسمها في البداية) هذا المكان. أعود إليه وحدي. باقٍ منها آثار مكدَّرة تحوم فوق الطاولة. كدَرٌ يجعل البئر عصيَّةً على الصفاء. لا تُحسن هذه المرأة أن تكون صريحة أكثر من حبيبة محتشمة. يكسر خطواتِها والكلامَ صبرُ عشيقة تخشى الهجر.
الدواء المطلوب ليس متوفّراً لديّ. لا أستطيع التكفّل بدور الطبيب. دائي وأعرفه. تلمس الشفتان عنقها هبوطاً إلى الكتف الملهوف. الجسم كلّه حيوان بدائيُّ الأُلفة. ينكمش نشوة وهلعاً ممّا غامض ولذيذ. تفانيها الهادئ في البيت كما في السرير. وفي السرير كما في الصلاة: رغبةُ طفل جائع يدنو من فمه ثديُ أمٍّ ينضح بالحرمان. تخرج الكلمة من فمها. تطير هادئة هدوء من يخشى السقوط في فخّ… صورة الطفل في حقيبتها الصغيرة تجعل البسمة في خيالي تغلب حرقة دموع العين. تنظيفٌ على الناشف لأحاسيسَ ملطَّخةٍ بالوعود.
من زماااان… ومنذ الأمس أُمارس اليوغا. لم أتعلّمها. ولم يتطوّع لتعليمي إيّاها أحد. لكلٍّ يوغاه، على كلِّ حال. أُحسِن بها على الناس ليحبّوني فأفعل بهم ما أريد. لا أتراجع عن يوغاي. أركب “الموتور” كلَّ يوم وأشاكس فهد بلّان. أكسِر عليه وأسبِقه. لا أخاف في الكسر لومة لائم. يعانق مريم فخر الدين. لا ينكسِر! أنتم رجال ونحن رجال! مَنِ القائل إننا خواريف؟ نحن فتّاكون فيما بيننا وبالضعفاء؟ أيُّ فِريةٍ، أيّ افتراء! (يا لَجمال لغة أهل الجنّة والجاهلية معاً!..) لا يهمّ. جالسٌ على درَجِ السلّم الخلفي الحديد. ظلٌّ تداعبه نسماتُ صقيعٍ عاشقة. رطوبةٌ تلسعني ساخرةً من عين الشمس الرمداء. قريباً تأتي خَولة (أناديها زُليخة، ولا تبتهج!). يكاد يسيل لُعابي من تصوّري طبخَها اللذيذ. حتى ولو لم تأتِ. ولم تطبخ. رائحة القلي. البهارات. الخلطات التي لا تطيب بدونها الكأس… كم مرّةً قُدَّ ثوبُها الحليبُ من أعلى الرأس! كأسُ المساء تَشربنا كما السمّ… نحيط المائدةَ بالسكاكين. لا يسيل دمُ أحد. يتجمّع فوّاراً في بركة تتسع لآخرين كثيرين بعد. في أعالي أيِّ برجٍ أنت الآن، يا علاء عبد المولى! أضع الجريدة تحتي. جريدة أجنبية والحمد لله. ليس فيها ما يمنع من الجلوس عليها. لا صورة قائد. لا لفظ جلالة. لا دبابيس. لا وجود ليومِ أمس. لم يكن له في حياتي وجود. مَن تطحنه دبابةٌ بجنزيرها البطيء الثقيلِ عدداً لا يُحصى من المرّات جيئةً وذهاباً، عفْساً وتقليباً و… ليس زمناً. لا اسمَ له. فليدلَّني عليه من يعرف. قد ينشغل حديد السلّم بأخبار حديد الحروب فتخفّ الرطوبة؟ الحديد بالحديد يُفلِح. لِمَ لا؟ طولُ هذا اليوم تِسعون فرسخاً من الموت. لم أخرج من حبسي بينكم. سوادُ الحديد حَنون. الجزء المكشوف من زجاج نافذة المطبخ نظيف. بعكس الستارة الملمومة إلى النصف. ملمومة إلى ما يسمّيه الرولانيّ “لذّة النّصف”… صديقٌ يأكل نِصفي. ينقع الباقي في الحَمّام. يُبيِّض به أسنانَه أمام الأصدقاء. ما عندي أيُّ شيء ضدَّ أحد. كلُّ شيء عندي ضدّي. ما لجُرحٍ بميّت أيُّ أمل.
الفستان المعلق في زاوية من الخزانة وحيدٌ. لا يتكلم طويلاً في الصباح. ربما لا لأن الدموع تخنقه. لا لأنه منهَك من الجوع شوقاً إليك. أفكِّر ساهماً. تقلِّبني الغيومُ الثقيلة بعيداً فوق الأشجار. لا أهتدي إلى شيء. أعود أتلمَّس الباقي من عود كبريت آخرَ اُشعِله من سيجارتي. أُلقي فحمَه على الصدر. أظل جالساً إلى طاولة ترفرف وتستغيث. عليها وتحتها خيالاتٌ. ديَكة وشياطين تتناحر بالحِراب. ليس للفستان جسد دافئ ينطِقُ ما مختبئٌ فيه. بقايا كلمات تتردد كل فجرٍ في فراغ صدره المشقوقِ. بنترة ذراعٍ قوية تُفرِغه الخيانة من بريق الصحون. تتردد الكلمات حشرجةً تستمر قليلاً. قد لا ينطفئ الصوت. الشرفة. جذور الرعشات المطمورة في الشرايين. طقم أسنان الأم الماضية حتى الآن. طائرُ الحَومِ المنهَكُ بالغيوم. تُغطِّس الأصابعُ المطلّة شفراتِها تحت كل غرسة تترك في السكين عذاب العظام.
… قبل أن تعود بي قراءتك من الحبس… أعرف سلفاً أن لا فائدة من منطق أو عقل. عليّ أن أقول إني قد لا أفكر بشيء. التفكير مسؤولية ليست من حقي! عليّ مسؤوليات كثيرة. إحداها، بل على رأسها: ألا أفكر. ها هم يدينوني (لا يحاكمونني) على ما لا أفعل ولا أقول. أغلِّف ما يجول في سرّي بصفحة صقيلة من غبش الاختناق.
قشور الجوز الخضراء بين يديكِ يفوح منها النبع. فستانك يدخِّن سيجارتي باجترار ولامبالاة. غير آبه بالصباح الذي أنا مشرف على غروبه. ما إن أفتح على الجُنينة عينيّ. عِشْ ذبيحاً تنجُ مع الحوت.