لم يعد يشعر بالاشمئزاز من مشاهد الموت، ولم يعد يتشاءم […]
لم يعد يشعر بالاشمئزاز من مشاهد الموت، ولم يعد يتشاءم منها، وبات قادرا على مغالبة الألم..إنه أحد الذين أصبحت المشاهد المؤلمة قدرهم منذ مارس المنقضي مع بداية انتشار جائحة كورونا في تونس مترددين على بيت الأموات.
هذه إحدى خاصيات ما يمكن تسميته “بالقبار في زمن كورونا” و”سيف” الذي يتجاوز عمره الأربعين سنة هو أحد الذين شاءت ظروف كورونا أن يكون آخر مودعي العديد من ضحاياها في بلدية منوبة.
يقول سيف عن تجربة أول عملية دفن: “احسست برهبة وخوف شديدين، بسملت وتعوّذت، ثم أخذت نفسا عميقا واتممت مهمتي، راودتني الكوابيس ليلا واقضت مضجعي، لكن مع تواتر الوفيات، وخاصة في الموجة الثانية، اقتنعت بنبل مهمتي وانسانيتها، شأني في ذلك شان بقية زملائي، وكنت أنا سند هؤلاء الضحايا في غياب أفراد عائلاتهم، أحرص على إكرام جثامينهم، وإقامة صلاة الجنازة عليهم، وتلاوة القرآن “.
لا مفر لسيف من ممارسة عمله ومن مشهد الموت اليومي فهو يعيل عائلته وأب لثلاثة اطفال وقد اقترنت مهنته منذ مارس المنقضي بدفن ضحايا كورونا، بعد ان كان مجرّد ذكر الموت امامه يرهبه، أصبح قدر سيف نقل الجثامين من بيوت الاموات بالمستشفيات الى المقابر ودفنها في سيناريو يتكرر إلى حد الارهاق والاجهاد النفسي.
جثمان تلو الاخر وقصة تتلوها قصة أخرى حولت مهنته من عون شرطة بيئية، الى قبّار لكورونا، كان رواد المقهى الذي يرتاده يفزعون من حضوره، خاصة خلال الموجة الاولى من الوباء، وكان يلتجئ الى النوم في العمل خوفا على عائلته من العدوى.
ويضيف: “باعتباري قائد فريق الدفن، أحرص على الاحاطة نفسيا بأعضاء فريقي من الشباب، خاصة في الموجة الاولى التي رافقتها تأكيدات علمية بتسبب الجثة في العدوى وما رافقها من تخوف وفزع”.
أما عملية الدفن فتبدأ بالنسبة للمكلفين بالدفن بارتدائهم الازياء الواقية بسرعة فائقة ويضعون الكمامات والقفازات، ثم يمتطون السيارة نحو المستشفى ..هناك يباشرون اجراءات تسلم الجثمان بعد البحث عنها في بيت الاموات رفقة فرد من عائلة الضحية، ويحملونه بعد تعقيمه ووضعه في الكيس الواقي، ثم يعودون ادراجهم الى طريق المقبرة .. ما لا يقل عن 27 جثمانا لضحايا الكوفيد 19 ، واراها سيف، إلى حد اليوم، الثرى رفقة فريق الدفن ببلدية منوبة ..
يجول سيف بين مقابر ضحايا الكورونا، ويشير إلى عدد من اصحابها، وإلى الذكريات التي لا تزال عالقة بذهنه، والصور المؤلمة التي رافقت عملية الدفن.
وعن أهم المواقف التي عاشها، وأبرز الذكريات التي علقت بذهنه، يقول سيف انه لن ينسى مشهد ضحية كوفيد، توفي بمنزله، وتعفنت جثته امام انظار ابنائه وزوجته، بعد خوف الجميع من معاينته واتخاذ قرار دفنه، وقد تولى بنفسه دخول المنزل، والقيام بإجراءات التعقيم، وتحميل الجثمان في الكيس، في مشهد مؤلم تسبب له في الارق مدة طويلة.
واضاف انه تأثر كثيرا لمشهد امرأة فارقت الحياة أمام مركز طبي على كرسي متحرك، وظلت في الشارع حوالي ساعتين على مرأى ومسمع من المارة الذين لم يحترم بعضهم هذا الموقف الانساني وقاموا بالتقاط الصور ونشرها على صفحات التواصل الاجتماعي بلا رحمة ولا شفقة ولا احترام للذات البشرية ..
سيف لا يزال يتذكر أولى حالات الوفاة جراء “كورونا” بمدينة منوبة في افريل المنقضي، ووقعها على نفسيته وعلى نفسية زملائه، ومخاوفهم الشديدة من عدوى الفيروس، فضلا عن وضعية الدفن المأسوية التي تعكس المعنى الحقيقي لغربة الموت، ويكون فيها الضحية وحيدا في جنازته ودون حضور افراد عائلته.
يقول سيف أن أكثر ما ضايقه خلال الموجة الاولى من الكوفيد ، هو حرمانه من رؤية عائلته ووالديه المتقدمين في السن مدة شهرين ونصف، والتجائه للنوم في مكان عمله خوفا من امكانية نقله العدوى اليهم، فضلا عن نظرة أبناء حيه له والذين يتركون المقهى فور دخوله ويرفضون جلوسه معهم خوفا من نقله العدوى.