لا أخفي ، اني من المتحمسين كثيرا منذ البداية ، […]
لا أخفي ، اني من المتحمسين كثيرا منذ البداية ، وانا اتابع مسلسل ” قلب الذيب” الذي عرضته تلفزتنا الوطنية في هذا النصف الاول من شهر رمضان المبارك.
واعجبني كثيرا ما اثاره من لغط ، وانتقادات مضحكة احيانا ولاذعة الى درجة التندر والسخرية ، سواء عبر شبكة الفايسبوك ، او من خلال بعض وسائل الاعلام المكتوبة او الالكترونية..اذ يكفي انه حرّك الالسن ، والسواكن والمياه الراكدة ، وايقظ زخم العقول ، واثار غبارا كثيرا تراكم في احراش الذائقة العامة التونسية منذ عقود.. بل ان هذا العمل الفني سوف يترك حوله بالفعل عديد الاسئلة التي لم يتعود اهل الاختصاص طرحها واثارتها في كل ما يتعلق بالنص..وروح النص.. والمتابعة والانجاز..والسيناريو ..والاداء.. والاخراج..
بمثل هذه الحدة.. والترصد ..والاضمار.. واني اعتبر كل هذا. مؤشرا طيبا لنجاح اي عمل فني يترك خلفه ضجيجا..ولغوا.. وعناقيد من الاسئلة الحارقة ..
لانه مَسّ مباشرة الضمير الغائب للشباب التونسي الذي يكاد لا يعرف الا المدسوس والمشبوه والمزور والمُوجّه من تاريخ الحركة الوطنية التونسية..
– قلت ان شريحة هامة من المشاهدين التونسيين عوّدوهم منذ عشرات السنين على متابعة المسلسات المصرية، واللبنانية ، والسورية ، ثم زادوا عليها بالمسلسلات المكسيكية ” انتَ أوْ لا احد..” و”كاسندرا”
وختموا هذا المشهد الوردي بالمسلسلات التركية ..وهي كلها تنضح بالعشق والفراق ، والهجر، واللوعة، والصبابة والوجد والخيانة..ثم كان ختامها زفتا بعد ثورة ربيعنا الذي لم نَرَ حتى عشبة خضراء واحدة فيه اصلا..بان تركوا الركح للزناة والعراة والمنحرفين والحشاشين ، واصحاب مال الدعارة والتهريب والفسق والمجون يبثون سمومهم ، وينفخون في الساحة الثقافية ، وينتجون مسلسلات الملاهي والمجاري الصفراء ..التي جرفت موجة كاملة من شباب تونس ( ذكورا واناثا) الى مستنقع الفساد والانحراف والجريمة والادمان، والركاكة والبذاءة والرذيلة .. فكرا..وسلوكا..
وصارت العائلات التونسية لا تستحي ان تجلس مع بعضها البعض من الام والاب. الى الابن والبنت..وكل الاصول والفروع..ويتحلق الجميع ليلا امام جهاز التلفزيون دون حشمة او وقار لمتابعة فصول كاملة من كوكتال دراما مزرية من سوء المنظر..وانهيار الاخلاق..وكآبة مشاهد ” اولاد مفيدة”…
لذلك فلا غرابة ، وفي خضم كل هذه التراكمات ، ان يطل عليهم مسلسل ” قلب الذيب” بايقاع جديد ، ولغة تخاطبنا اليومية ، وباسلوب نظيف..وهادف ..وبهتافات اجدادنا الابطال التي ما يزال صداها يصهل بين الوديان ، وفي الكهوف والاحراش والجبال، يذكرنا باننا لسنا امة من غبار.. ويعيد الى اذهاننا ما قاله ” حنبعل العظيم “:
– اما ان نجد سبيلا..او نصنع سبيلا..
وانهم منحونا امانة هذا الوطن..وتركوا لنا درعا وسيفا..
بل لا غرابة في كل ذلك.. لان مسلسل ” قلب الذيب” اراه قد قطع بصفة جذرية مع تراكمات تلك السنين الطويلة من الابتذال الفكري ، والتهريج ، والتهميش ، والرداءة ، والانحطاط الاخلاقي الذي حاول البعض من قابضي المال الفاسد ..افشاءه في صفوف ناشئتنا ..داخل العائلات التونسية..وحتى فوق ارصفة السوارع..لغة..وسلوكا..
من هذا المنطلق .. اعتقد ان مسلسل ” قلب الذيب”.. حاول وبقدر المستطاع – وبامكانات تكاد لا تذكر – ان يدعو بطريقته الى الرجوع مجددا الى الذاكرة الوطنية ، وضرورة اعادة قراءتها وصياغتها وترتيبها وانصاف جميع المناضلين الاحرار دون استثناء.. الذين ضحوا بالغالي والنفيس ضد المستعمر الفرنسي،، حتى تنعم الاجيال اللاحقة بالحرية.. والعزة والكبرياء والكرامة .. وأرغد الحلم والعيش..
والذي اعجب اليه حقا..ان عائلات وابناء اولئك المجاهدين الحقيقيين لم يطلبوا او يتحصلوا على فلس واحد من التعويضات ..على غرار ما فعله زورا وبهتانا ..حفنة من الدراويش واللصوص والمرتزقة وتجار الدين ..من نهب غير مسبوق لخزينة الدولة كتعويض لخياناتهم..و استبلاههم وخديعتهم لشعبنا الطيب الكريم..بعد ان دبّروا أمر الضحك علينا في صالونات باريس ولندن..
صحيح..ان مسلسل ” قلب الذيب” تنقصة الكثير من الدعائم والركائز الفنية اللازمة من حبكة درامية جيدة..ومادة تاريخية دسمة .. وتسلسل موضوعي للمقاومة..وابراز الاحداث والوقائع الهامة بكل شفاقية..وموضوعية ..وما الى ذلك من الادوات المكملة والمُجمّلة في نفس الوقت.
لكنني لا املك الا ان اشد على يد المنتجة الشجاعة” خولة السمراني” التي حسب ما تابعت..تعرضت لمتاعب كثيرة..هنا وهناك.. وكذلك كل اعجابي للمخرج الشاب ” بسّام الحمراوي” الذي لامس بجرأة غير معهودة ، وبكفاءة عالية هذا الخيط الحريق..الذي لم يتجرأ غيره من الشباب على الاقتراب منه. .. او حتى التفكير في صياغته..
أشد على يديه..لانه لم يخرج للناس معلنا انه ” مصطفى العقاد الجديد”.. بقدر ما لازم حدود صبره،، حتى يفهم الجميع ان ما قام به هي اضاءات حارقة وصادقة.. وصادمة وعميقة لذاكرتنا الوطنية التي حاولوا مؤخرا طمسها..واخماد بريقها في اذهان ووجدان شباب تونس.. وان الطريق لا تزال طويلة لاستكمال لَمّ.. وشَمّ دم الشهداء من تحت التراب..
ومما لا شك فيه.. ان مثل هذه المسلسلات التاريخية تتطلب الكثير من الوقت والجهد والتفرغ..والاعتمادات المالية الضخمة.. والعمل الجماعي الشامل ولا مناص لاستكمال ذلك.. من ضرورة الاستئناس بآراء ثلة من الاكاديميين والاساتذة الجامعيين المختصين في التاريخ الحديث والمعاصر.. . من اجل صياغة ملحمة وطنية كبرى باتم معنى الكلمة تليق بجغرافيا هذا الوطن الجميل.. وبشعبه الامين..
– اعتقد ان الوقت قد حان..لنحت هذه الجدارية العظيمة في ذاكرة كل التونسيين حتى تبقى مرجعا راسخا ومنارة مضيئة لكل الاجيال..
– ان الاعمال المبهرة..لا بد لها من فريق متكامل وموارد مالية كبيرة..وكفاءات عالية لمسايرة وحياكة جميع الاحداث والوقائع بكل نزاهة وحياد..ومسؤولية..
وكم تمنيت لو ان تلك الملايين التي ذهبت الى متاهات وجيوب المتحيلين والفاسدين على غرار ” هيئة الحقيقة والكرامة ” مثلا..كم تمنيت لو صرفت لانتاج مثل هذه الاعمال الجليلة التي سوف تبقى حتما…شارة شرفنا..وتاج حقيقتنا وكرامتنا دون سواها..والبوابة الشاهقة التي لن تتداعى ابدا..خلف غبار الخيول والاحزاب..
– امّا قبل :
يا سيدتي ” دليلة مفتاحي”
ان اللغة احيانا..تضيق
وانت في كل ما كتبته ..ولَمْ أقلْهُ..
انتِ.. صهيل اعراس تونس
ونجمتنا البعيدة ..المُشْتهاة..
بقلم:عبد الرؤوف بوفتح