بقلم : عبد الرؤوف بوفتح كلنا يعلم ، ومن خلال […]
بقلم : عبد الرؤوف بوفتح
كلنا يعلم ، ومن خلال متابعة هجرة اللغات ، أنّ القطعة النقدية ذات الخمس مليمات ، نسميها بلهجتنا التونسية ” دُورُو”. غير انّ
القليل – ربما- يعرف ان اصل هذه الكلمة تعود الى الاسبانية.. وهي تعني عندهم القطعة الصلبة او ما شابه ذلك..
وكانت هذه القطعة في جيلنا ومنذ بداية الاستقلال تُتداول وتنساب بشكل سلس منتظم ، وبصفة يومية في ايدينا وجيوبنا ، واثناء معاملاتنا في البيع والشراء لمختلف حاجياتنا صغارا وكبارا ، المعيشية منها بالخصوص ، ولها قيمة لاباس بها خاصة ونحن صغار حين نقبض من أبائنا مصروفنا اليومي الذي لا يتجاوز بالكاد 4 دُورُو.. وهو مبلغ محترم جدا في ذلك الوقت يكفينا لشراء بعض الحلوى والبسكويت ، و”قطعة من الهريسة” و”النّوقا”..وحتى بعض السجائر الرديئة لمن تعلم التدخين مبكّرا وخلسة…بل كانت هذه الفئة من العُملة لها شنّة ورنّة ، وقيمة في السوق النقدية لدى المراهقين من جيلنا ، ودور فعّال في الحركية الاقتصادية وفي تنشيط الاستهلاك اليومي للطبقة الفقيرة وحتى المتوسطة في شرائح مجتمعنا التونسي أنذاك.
غير ان الاوضاع تتبدل كما تعلمون..وسبحانه الذي بيده الملكوت كله، يُعز من يشاء . ويُذلّ من يشاء.
اذ بعد مجد وعز ” الدُّورُو”..فقد اذلّه الله يا سادتي..كما يذل الناس..والملوك..والدول ايضا.
اي نعم والله..
لقد صار هذا النوع من الفلوس وضيعا ، محتقرا ، وعديم الجدوى في المعاملات النقدية ، في الدفع ، والقبض ، وفي اسعار
ابسط منتوج وسلعة..بل صار مضرب الامثال كلما استحضرنا مشهدا رديئا ، او شخصا تافها ، او حالة بائسة من حولنا لا تنفع ولا تضر , ولا قيمة او معنى لها – Absurde.
ولن اطيل عليكم وانا اسرد مأساة ” الدّورُو”
هذا الذي كان عظيما ، اذ كم مرة انقذني من حرماني وأنا صغير، وأدفأ ولبّى رغباتي وشهوات نفسي المراهقة الجائعة الحالمة واللاهثة خلف بضاعة بسيطة ومتسخة كنا نلتهمها التهاما ونتذوقها كألذ من” المَنّ والسلوى” خلف زنْبيل بائعنا المتجول على ظهر حماره ” كاتب الشيخ” ، او عند “حانوت وكوخ ” “عم صالح” المتداعي – يرحمهما الله.
ان اطيل عليك.. بحكاية ” افلاس الدٌورُو” وأُفُول مجده..
فالمشهد العام ، والوضع الذي تعيشه تونس سياسيا ، واقتصاديا، وتربويا، وصحيا، واجتماعيا ، وثقافيا..وحتى تجريديا وتكعيبيا..وسورياليا.. وما شئتم من مرارة “ابي دلامة”..تجاوز ماساة ” الدّورُو الطيب الكريم”.. بل هو تقريبا ينطبق ويتلخص فيما رويت لكم عن نكبة هذا الدرهم الابيض الذي كان ينفع في يومنا الاسود.
فالحكام الذين ابتلينا بهم ..لم يتركوا لنا.. لا الحبل ولا الغارب..جميعهم..من سعد الى سعيد..ومن زاهد الى راشد ..ومن نعيم الى نعيمة…ومن الباب الى المحراب..ومن” بَقْبق” الى طَقْطق… حتى السلام عليكم.. أكلوها مع اصْطِفاق الباب.
لقد اعادوها بلادنا اليوم.. الى بلاد “الطرارنّي” كما وصفتها وتركتها فعلا منذ عقود يااا سيدي وأديبنا الكبير ” علي الدوعاجي”..
– تعبت يداي من الكلام..
وكما يقول النؤاسي .
بما أهجوهم لا ادري.. لساني فيهم لا يجري..!
بقلم : عبد الرؤوف بوفتح