جالست مرارا الاعلامي والاذاعي الفذ ” صالح جغام ” – […]
جالست مرارا الاعلامي والاذاعي الفذ ” صالح جغام ” – طيّب الله ثراه” الذي كان يحبني بصدق ، وكان يحب كتاباتي وما انشره عبر الجرائد والمجلات بالرغم من كوني مازلت في بداياتي في ذلك الوقت ،، اتأرجح بين الطليعة الادبية وروّادها ..واهل اليسار واهل اليمين وكهنتهم.. ثم كنت انا ايضا ومن عند ربي ابادله نفس الشعور..لا خوفا ولا طمعا..
فالرجل – يرحمه الله – كان موهوبا ، مثقفا ، مؤدبا لطيفا، طيبا ومتواضعا كالماء.. وفي المقابل كان قاسيا مع نفسه وذاته ودقيقا جدا حين ينصرف الى عمله الى درجة الشفقة، ولم يكن في يوم من الأيّام بحاجة الى رقيب او حسيب ، او من يقف امامه داخل القاعة الفنية والمراقبة الزجاجية ليُعدّل له بوصلة خروجه عن النص ..او يلقنّه ما يجب التحدث فيه وما لا يجب الخوض في تفاصيله..او تحاشي التعرض والاشارة اليه .. خاصة وان اغلب البرامج التي كان يعُدّها ويقدمها بنفسه ( وهو من القلائل)..كانت تذاع مباشرة عبر الاثير في تلك الفترة من عهد الزعيم ” بورقيبة ” – لروحه السلام – ، والتي كان الاعلام فيها موجّها.. اي الخصم والحكم ، بل معلّبا وجاهزا للترويج كسمك السردين ، ومعجونا مثل ” البيتزا” ولا يحق لاحد في اختيار توابل كلماته او رش ما تيسّر من الجمرات..وحتى نُكْهة ثمار الفصول وغلال البحر ان وُجدت اصلا.. في زمن كانت الاغلبية العظمى من السهرات والبرامج الاذاعية المتنوعة، ومهما كان صاحبها وخط تحريرها ، مسجلة قبل اسبوع على الاقل..
فالاذاعة الوطنية التونسية امتلات وقتها بالطبّالين ومنشدي فتوحات الفارس ” يوغرطا” او بني هلال او بني حفص .. ومادحي المنقذ والملهم والمجاهد الاكبر وزعيم افريقية..الذي لا يشقّ له غبار..
لقد اختار “صالح جغام” سلطته الذاتية على سلطة المؤسسة التي يشتغل فيها وينتمي الى أروقتها.. وظل حريصا اشد الحرص على ان يقدم للناس ماينفع ، وما هو انقى.. وابقى..بل استمر خارج السرب متفردا في اسلوبه وفي صياغة رسالته الاعلامية النبيلة والمقدسة..بكل حرفية واقتدار بعيدا عن فُتات الموائد وطابور القصر وجواريه.. وجوقة الكثير من زملائه الضاربين على دفوف النفاق والرياء والانتهازية والذين اختاروا التسلل عبر الابواب الخلفية بأبخس الذمم للتسول الفكري والاخلاقي ودون كفاءة تذكر..للحصول على بقايا الغنائم التي كانت تُنثر لهم عبر الأيادي المتسخة وفي سراديب النفوس الحقيرة ..والممرات المظلمة الراكدة.مكتفيا بمرتب لا يفوق الـ500 دينارا وشقة على وجه الكراء.
ومع تعدد لقاءاتنا ، كان لي الشرف لمصاحبته مرة وحيدة حين استدعاني لبرنامجه البديع ” حقيبة المفاجآت ” حيث واكبت عن كثب كيف يشتغل الرجل الى حد الارهاق ودون كلل فازددت يقينا واكبار واعجابا لطاقته الخضراء المتوهجة المتجددة واصراره الشديد على تقديم غير المألوف وتوغله في مناطق ساحرة ام يسبقه اليها أحد..وبذلك ايضا عرفت لماذا اجتمع في محبته الناس ..وكيف استطاع ان يترك بصمة صوته الشجي في ثقوب الميكروفون الراعف عشقا لمستمعيه ولوطنه حياّ وميّتا…
لقد اندلقت من مزاريب ذاكرتي البعض من التداعيات المندسة في احراش القلب منذ سنوات بخصوص قيمة صديقي الاعلامي الكبير الرائع حقا..
تذكرت كل هذا الهدير العذب ،، وانا اعيش كمعظم التونسيين سنوات من التنهد والحسرة والخيبة والوجع المر ، بل أضحك أحيانا ضحكة الحامل لقندليه حتى يُمَكّن مرافقه الغريب من اغلاق الباب خلفه في حضرة وخُلْوة مَنْ أحبّها هُوَ.. بعد ان استعصى عليه قُفْل الباب..
نعم ، صرنا مرضى لواقع اعلامنا البائس منذ ” واقعة البَرْويطة”، وما عمّه من عبث واستهتار وفوضى ” لحمّالي الموانىء” بعد ان تسللت اليه النطيحة والعرجاء ، وصار مرتعا لكل مَنْ هبّ ودبّ ، ومنبرا للرداءة والسخافة والانحراف المادي والمعنوي.. بل صار الاب وقدوة اسرته يتفّرج حذو ابنائه وبناته على مشهد يومي في زريبة للشواذ والمعوقين فكريا ، وشُذّاذ الآفاق ، وعارضات ازياء الشهوة ، ومهرجي السيرك
والحشّاشين ومدمني الملاهي والكباريهات الليلية الخليعة .. دون حشمة او وقار ،، أو مراعاة لطبيعة وقيم العائلة التونسية المحافظة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.. ودون اعتبار حتى للذائقة العامة التي رموا بها في المزابل والاقبية الكريهة. الى ان ننتهي الى العبث بمشاعر الناس وأمن البلاد ولكم مؤخرا في برنامج علاء الشابي كلنا تونس دليلا..علاء الذي يتقاضى 25 الف دينارا شهريا يتسوجب عليه بما يتقاضاه ان يهذب الراي العام ويوجهه نحو الأفضل لكنه اختار ان يعمق الجراح اكثر فاكثر مستغلا الظرف للاثراء ولمزيد “تسطيك” الرأي العام.
ان حرية الرأى لا تعني السلخ والمسخ اطلاقا يا سادتي وليست هتكا لأعراض الناس بالمجان واثارة الحقد والنعرات وبث الاشاعات والتضليل والخديعة والمتاجرة بأوجاعهم وهمومهم و التلذذ باحزانهم ، والتشنيع بخصوصيات الاسرة التونسية مشرفا ومغربا تحت راية التقليد الاعمى وما يسمونه ب ” تلفزيون الواقع” او عبر الموجات اللقيطة الاتية الينا من مستنقعات الدعارة والرذيلة بكل اصنافها ومسمياتها…-وهو حال واجهة اعلامنا اليوم – .. يا سادتي الكرام…
انّ حرية الرأي والتعبير لا تنمو وتترسخ وتزدهر. ويؤتمن جانبها ، الا عبر الاصلاح والتوجيه وغرس الكلمة الطيبة والفعل الحسن ، والفكر الاصيل في فلول الناشئة أخْذًا .. مَدّا وجَزْرًا ، ترهيبا وترغيبا،،انطلاقا من خصوصية ومنابع كل مجتمع ، وملامح هويته ، واسلوبه في ممارسة الحياة ، بعيدا عن التبعية والتهريج ، والمسخ ، والتغريب..
– وقديما قالت العرب :
كل امْرِىءٍ في بيته صبي.
عبد الرؤوف بوفتح