اتهمت “هيومن رايتس ووتش ” في مقال اوردته على موقعها […]
اتهمت “هيومن رايتس ووتش ” في مقال اوردته على موقعها ،الرئيس قيس سعيد بالاستحواذ على السلطة ،وجاء في المقال ما يلي :
قال الرئيس التونسي قيس سعيّد إنه يتصرف في نطاق الدستور عندما استأثر بسلطات واسعة في 25 جويلية2021، بعد شهور من تعطل عمل مؤسسات الحكم في تونس، وفي خضم تداعيات أزمة “كوفيد-19” المتفاقمة. ينص الفصل 80 من الدستور الذي استند إليه سعيّد على أنه يتعين على المحكمة الدستورية، بعد 30 يوما، وبطلب من البرلمان، أن تبتّ فيما إذا كانت الظروف الاستثنائية التي تتطلب ممارسة سلطات استثنائية لا تزال قائمة.
في 23 أوت ، وقبيل انقضاء مهلة الشهر بيوم واحد، جدّد الرئيس حالة الطوارئ “حتى إشعار آخر”، ما أدى إلى تعميق الأزمة الدستورية في تونس. لا يمكن للبرلمان أن يطلب من المحكمة الدستورية البت في هذا التجاوز الرئاسي المفترض لسبب بسيط، وهو أن سعيد علّق البرلمان، في حين أن المحكمة الدستورية، وهي من أهم مكتسبات الدستور الديمقراطي لما بعد الثورة في تونس، لم يتم تنصيبها. إذن فالضوابط المؤسسية التي وُضعت للحؤول دون عودة تونس إلى الحكم الاستبدادي الذي عانت منه منذ استقلالها عام 1956 حتى الربيع العربي في 2011 لا وجود لها.
استفرد قيس سعيّد، الأستاذ السابق في القانون الدستوري، بالسلطة بموجب الفصل 80 من الدستور عندما أقال في 25 جويلية رئيس الحكومة، وعلّق البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وأعلن توليه صلاحيات النيابة العمومية. ندد المنتقدون بهذه الإجراءات ووصفوها بأنها “إنقلاب ذاتي “غير دستوري .
أصر الرئيس على أن لا طموحات ديكتاتورية لديه، وأنه سيحمي حقوق الإنسان للتونسيين. تتبع الأوضاع اتجاها مقلقا لحد الآن، إذ رغم عدم شن حملة قمع واسعة النطاق، سجنت السلطات عضوين في البرلمان في إطار قضايا متعلقة بحرية التعبير، واغلقت مكتب “قناة الجزيرة” في تونس، واتخذت عددا من الخطوات القمعية الاخرى ، بما في ذلك وضع بعض الشخصيات قيد الإقامة الجبرية أو منع عدد من التونسيين من السفر الى الخارج .
العديد من التونسيين الذين أيّدوا تصرفات الرئيس في البداية باعتبارها محاولة جريئة لكسر الجمود في مؤسسات الحكم حثّوه علنا على تقديم خارطة طريق قبل انقضاء فترة الـ 30 يوما، وهو مطلب تجاهله الرئيس. وعد سعيّد بمخاطبة الشعب في الأيام المقبلة.
تنتشر تكهنات بأن سعيّد، الذي فاز بالرئاسة بأغلبية في 2019 كمرشّح مستقل واعدا بمحاربة الفساد، قد يحاول الاحتفاظ بسلطات استثنائية لفترة تكفي لتعديل الدستور، ليصير نظام الحكم أقرب إلى الرئاسي. حثت الولايات المتحدة في 13 أوت سعيّد على تعيين رئيس حكومة يتقاسم السلطة التنفيذية مع الرئيس بموجب الدستور، ودعت إلى “عودة سريعة” إلى الديمقراطية البرلمانية.
في مثل هذه المواقف، تبرز الحاجة الماسة إلى محكمة دستورية.
ما كان يسعى إليه التونسيون جدير بالإعجاب، وهو إرساء هيئة قضائية قوية ومستقلة لديها صلاحية تعديل وإلغاء القوانين بما فيها الإجراءات الرئاسية والبرلمانية التي تراها غير دستورية. وهذا يختلف جذريا عن القضاء الخَنوع الذي عرفته تونس طوال تاريخها الحديث، شأنها في ذلك شأن بقية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تكون المحاكم والمجالس الدستورية عادة ضعيفة ومنصاعة للسلطة التنفيذية.
من المؤكد أن المحكمة الدستورية، لو كان لها وجود، كانت ستدقق في تعليق قيس سعيد للبرلمان بموجب الفصل 80 الذي ينص على أنه عندما يستأثر الرئيس بسلطات استثنائية، فإن البرلمان “يُعتبر في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة” ولا يجوز للرئيس “حلّه”.
تتمتع المحكمة، إضافة إلى دورها بموجب الفصل 80، بصلاحيات أخرى تجعلها جوهرية في جهود تونس لترسيخ الديمقراطية. كان مفترضا أن تكون الوصي على أحكام الدستور القوية المتعلقة بحقوق الإنسان. عند الطلب، كان لها أن تدرس او تلغي التشريعات، سواء كانت مشاريع قوانين أو قوانين قائمة، والمعاهدات التي تعتبرها غير دستورية. كان بإمكانها مثلا مراجعة القوانين الجائرة الموروثة من عقود الحكم الاستبدادي في البلاد، مستنيرة بضمانات حرية التعبير التي كفلها دستور 2014. ما فتئت تلك القوانين تتسبب في الزج بالتونسيين في السجن عاما بعد عام، ومنهم نائب البرلمان ياسين العياري، الذي أدين في 2018 بسبب تدوينات على “فيسبوك” وسُجن في 30 يوليو/تموز بعد أن رفع الرئيس الحصانة البرلمانية.
تجسّد المحكمة الدستورية أعظم تطلعات الثورة التونسية. وهي في الواقع محورية للغاية في رؤية دستور 2014، حتى أن بعض المعلقين التونسيين قالوا إنها ما دامت لم تُبصِر النور، لا يمكن القول بأن الدستور نافذ حقا.
لم تُنشَأ المحكمة لأن البرلمان تقاعس عن تعيين حصته من القضاة فيها، حيث يكون التعيين لفترة تسع سنوات. رغم أن الدستور ألزم البرلمان بإكمال تعييناته الأربعة بحلول 2015، لم ينل إلا قاضيا واحدا حتى الآن أغلبية ثلثي الأصوات المطلوبة في البرلمان، ما أدى إلى تعطيل تعيين القضاة الثمانية الآخرين، أربعة منهم من قبل الرئيس وأربعة من قبل “المجلس الأعلى للقضاء”.
رفض الرئيس سعيّد في وقت سابق من هذا العام تمرير مشاريع قانون في البرلمان لكسر هذا الجمود بخفض العدد المطلوب من الأصوات للموافقة على القضاة، إنه بعد انقضاء المهلة التي حددها الدستور لتعيين القضاة، وهي 2015، أصبحت البلاد في وضع غير دستوري بالفعل فيما يتعلق بالمحكمة. يتهم منتقدون سعيّد بالبحث عن ذرائع لعرقلة إنشاء هيئة يمكنها مراجعة قراراته وإبطالُها.
يُدرك الأميركيون خصوصا أهمية ترشيحات المحكمة العليا في ديمقراطية معرضة للخطر. قبل أقل من عام، كان الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب مصمما على ملء مقعد شاغر في المحكمة العليا الأمريكية بقاضية تاسعة قد يكون لها الصوت الحاسم في النزاعات القانونية بشأن انتخابات نوفمبر2020. في تونس والولايات المتحدة تحديدا، كانت معارك الترشيحات للمحكمة شرسة بسبب تمتع المحكمة بسلطة حقيقية في كلا البلدين. تكون الرهانات أقل أهمية عندما تكون المحاكم أو المجالس الدستورية منصاعة وضعيفة، كما كان شأن المجلس الدستوري التونسي، المنحّل، خلال عقود الحكم الاستبدادي.
لا عجب إذن أن يطمح كل معسكر سياسي في تونس إلى محكمة عليا تتماشى مع توجهاته الخاصة، وهو تماما ما تريده الأحزاب السياسية الأمريكية من المحكمة العليا.
تعيش الديمقراطية ذات السنوات العشر في تونس أخطر لحظاتها، وما يزيدها خطورة غياب محكمة دستورية كانت لتوفر ضمانات تحمي من تجاوزات السلطة التنفيذية.