بقلم: علي الجليطي وقد سرنا في جنازة تلك السنة غير […]
بقلم: علي الجليطي
وقد سرنا في جنازة تلك السنة غير المأسوف عليها، بل لا رحمها الله فلا احد منا يحزن لفراقها بسبب وبائها اللعين الذي حرم علينا الاحتفال باستقبال ميلاد أختها الجديدة، رأيت أنه قد يكون من المناسب أن أستحضر زمنا جميلا من شقيقات لها في الربع الثالث من القرن الماضي وأغوص معكم في واقع مضى ولكنه مليء بذكريات حلوة قد يستمتع بها في مطلع هذه السنة الجديدة من عاش مثلي في البادية وقد يستفيد منها البعض الآخر وتثري معارفه فهي في كل الحالات حكايات من تراثنا اللامادي.
كانت سنوات الطفولة وما بعدها في ريف تطاوين مسقط رأسي، في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، مليئة بالأحداث التي تشدني والعائلة إلى الأرض. فهي المورد الرئيسي للغذاء ولم نكن ابدأ نتسوق من المدينة إلا بما نحتاجه فعلا ولا نقدر على إنتاجه بأيدينا. فكانت الفلاحة “البعلية” التي تعتمد على أمطار الخريف والربيع هي التي تضمن للأسرة جل مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي من شعير وقمح وزيت وحليب وبيض وتمر وتين…الخ فضلا عن صوف الخرفان وشعر الماعز ووبر الجمال الذي يصلح باختلاف المصنوع لنسيج “البرنس” أو”الحولي” أو”الوزرة” وأنواع مختلفة من المفروشات، إلى جانب الجلود مكسوة بصوفها التي يُصنع منها الفراش، و”القِرْبة” من جلد الماعز وهي خزانات لنقل الماء، أو “المزود” من صغار الماعز لحفظ “البسيسة” للرعاة.
ولا يمكن أن تندثر من الذاكرة تلك الأحداث التي ترتبط بكل موسم فلاحي والتي كنت أشارك فيها في البداية كمتفرج يلهو بما يحلو لكل الأطفال ثم بعد ذلك كمساهم شاب مع الكهول بنفس العزم والهمة. ومن بين المناسبات العالقة بالبال حراثة الأرض بعد نزول أمطار الخريف والتي تعبق فيها الأرض برائحة تنتشر في الهواء كلما غاصت سكة المحراث في عمقها وينقلب التراب نحو وجه السماء فيترك مرور المحراث وراءه عطرا طيبا نادرا هو عطر الحياة. ولا يكاد يشرف الخريف على نهايته حتى تجتمع الأسرة لجني الزيتون في ما لا يتجاوز أصابع اليدين من الشجرات ولكنها كافية لخزن كل متطلبات العائلة لسنة كاملة.
ومن أحلى الفترات ما عايشته أثناء عملية “القرقيبة” وهي بمثابة باكورة زيت تتم بطحن كمية قليلة من حبات الزيتون يدويا من طرف الوالدة، فيما يتولى الوالد حمل بقية المنتوج الذي تم جنيه إلى “معصرة السوق”. وتتمثل تلك الحركة التقليدية أي عملية “القرقيبة” في وضع كمية قليلة من الزيتون فوق مصطبة من حجر الوادي النظيف المصقول ودحرجة حجرة كبيرة من نفس النوع فوقها جيئة وذهابا لطحنه إلى أن تنفصل القشرة من النواة وتصبح كمية الزيتون بتواصل الدحرجة عجينا سلسا. وعندما يخلط العجين في إناء كبير به ماء، يطفو الزيت على السطح فيتم شفطه بكفي اليدين ويصب في آنية أخرى جاهزة… وقد يؤخذ من العجين مقدار حفنة في قبضة اليد ويعصر بقوة إلى أن ينساب الزيت الزلال بين السبابة والخنصر فتتلقفه الأفواه بشراهة عجيبة. أما بخصوص الاستهلاك السنوي، فان العائلة تعتبر محظوظة بفضل ما يعود به الوالد من “معصرة الزيتون” من كمية الزيت بما يكفي خلال حول كامل إلى أن يأتي الموسم الجديد بحول الله.
والى اللقاء في حلقة أخرى من الأرض الطيبة.