بقلم: علي الجليطي في سنتي الدراسية الخامسة سنة 1963 انتقلت […]
بقلم: علي الجليطي
في سنتي الدراسية الخامسة سنة 1963 انتقلت بالإقامة مع جدي إلى غرفة لاحد أصدقاء العائلة في سفح جبل “برورمت” على مشارف مدينة تطاوين مما قلص المسافة المقطوعة نحو المدرسة إلى حوالي النصف وأكثر وساهم في تخفيف العبء من التنقل اليومي من مسكننا الريفي إلى المدرسة. وكان الطبخ والمراجعة والمبيت يتم في نفس الغرفة في ذاك المنزل حيث يفصل بين سفح الجبل والطريق إلى المدرسة واد غير ذي زرع. غير أن شتاء تلك السنة الدراسية كان ممطرا جدا إلى درجة فاضت فيها المياه في أحد الأيام ونزلت في هدير مرعب مع منعرجات ذاك الوادي السحيق. ولم أتمكن يومئذ عند العودة من المدرسة من شق الوادي نحو البيت إلا بفضل جدتي التي حملتني “زقفونة”، وغامرت بخوض المياه الهادرة وكانت وهي تصارعها تردد البعض من أسماء الله الحسنى إلى أن بلغت الضفة الأخرى من الوادي.
لم تنته تلك السنة الدراسية حتى قرر الوالد بعد تلك الحادثة استرجاع حضانتي ومغادرة مقرنا الريفي والتحول مع والدتي للاستقرار بالسكن وسط المدينة في منزل زوج أختي الذي كان قد سافر مع عائلته للعمل في باريس. كانت تلك الفترة أي منتصف الستينات بداية الهجرة إلى فرنسا التي كان اقتصادها في حاجة ماسة إلى اليد العاملة الرخيصة والمختصة. ولا تكاد توجد عندئذ عائلة واحدة بدون فرد واحد إن لم يكن أكثر من بين العمال الذين ذاقوا طعم الغربة والهجرة وكانوا مورد رزق لعائلاتهم التي ظلت مرابطة بالوطن لتربية الأبناء.
في عام 1965، كان الإعلان عن نتائج ختم الدراسة الابتدائية يتم عبر الجرائد اليومية. ولما كان العام الدراسي قد انتهى فقد عاد الوالد مع أسرته إلى السكن في الريف. واضطرت إلى التنقل يوميا إلى وسط المدينة لترصّد ظهور النتائج حتى وصلت الأخبار مساء ذات يوم بأن الحافلة القادمة من تونس تحمل جريدة اليوم وبها قائمة الناجحين. كان يوما تاريخيا بالنسبة لي حيث ما أن تأكدت من نشر الخبر حتى سارعت بشراء نسخة من جريدة “الصباح” ورحت أبحث في ثناياها بين الصفحة والأخرى عن قائمة مركز تطاوين إلى أن ظهرت أمامي جداول الأسماء في صفحة كبيرة تكاد تغمرني من هول مساحتها. وظللت أقرأ وأتثبّت من كل رقم واسم وقلبي يكاد ينفطر من كثرة الخفقان إلى أن جلب نظري اسمُ في أسفل الصفحة تحت رقم 39103 فطرت من شدة الفرح عائدا إلى المنزل. ولما وصلت إلى هناك بدا لي وكأن كل شيء يسير ببطء شديد والسكينة غالبة على الأجواء. لم يعترضني أحد لا بالضحك ولا بالبكاء… فقط سألني الوالد: هل نجحت؟ فأجبت بكل بساطة: نعم. فابتسم وكان ذاك كل ما جرى في ذاك اليوم المشهود !
ومن حسن الحظ أن المدرسة كانت مصدرا للتربية والتعليم والترفيه ولكن أيضا أمّا حنونا ولا سيما بالنسبة للمعوز والفقير من روادها حيث كانت تختتم فيها كل سنة دوما بحفل في البهو تُوزّع فيه الجوائز والمشروبات للناجحين. وتقدَم فيه الإعانات للمحتاجين منهم متمثلة غالب الأحيان في قميص صيفي ملون وسروال قصير من قماش ابيض فوقه رسم اليدين المتصافحتين باللون الأزرق وعبارة العم سام “ليس للبيع أو المبادلة” فضلا عن حذاء “كشفي” قهوي اللون أو رياضي ازرق من علامة “الغزالة”. لقد ذهب ذاك الزمن الجميل ولم يبق منه اليوم إلا حلويات “قرن الغزالة” كعلامة تعرف بها تطاوين عروس الصحراء…(انتهى)