في رحاب المدرسة (4) كان المعلمون في مطلع الستينات من […]
في رحاب المدرسة (4)
كان المعلمون في مطلع الستينات من القرن الماضي بالفعل حمّالين لرسالة نبيلة هي رسالة التربية والتعليم. وكنا نقدّرهم ونهابهم في القسم وخارج القسم. وكان منهم بالطبع من يستعمل الترغيب ومنهم من يلجأ إلى الترهيب واستعمال العصا الغليظة. لذلك كنت أخشى، مع جملة من في القسم، حصة التاريخ يوم الخميس لأنها مخصصة للأسئلة عن تاريخ تونس من نوع “متى تأسست الدولة الحفصية؟ ومن فتح جزيرة صقلية؟ ومن هو إبراهيم ابن الأغلب؟ وبالطبع يكون خط الأجوبة الفورية بالطباشير الأبيض قبل رفع اللوحة السوداء على الجبين. ويا ويل من يكون جوابه قد فقد الصواب إذ سيتناول صاحبه من السيد “المنصف الخياري” معلّم التاريخ ما تيسر من ضربات عصا الزيتون التي يكون سيدنا قد اختارها من بين مجموعة مرصوفة في أعلى الخزانة المجاورة لمكتبه. وقد فقد أحد التلاميذ يوما الصواب فكان نصيبه لا يقل عن سبعين جلدة مقسمة بين اليدين والقدمين بطريقة “الفلقة”…
ومع ذلك (وربما لذلك) يبقى كل معلّم في تلك الفترة في مخيلة التلميذ سيّدا نكنّ له كل التبجيل ولا يجرؤ أحد على رفع رأسه أمامه ولا مناقشته في أمر حسمه… بل هو مرجع وقدوة وعنوان للقول الفصل لا يضاهيه في تلك المرتبة إلا رب الأسرة. بل يحصل أحيانا أن يمر المعلم في ساحة المدرسة أو أمامها حذو تجمع من التلاميذ في وقت راحة فيقفون إجلالا له تماما كما يحدث في بداية الفصل. ثم يعودون إلى ما كانوا فيه من لهو بريء بين حصتي الدروس من خلال ممارسة ألعاب مختلفة منها لعبة “الأعواد” و”الزربوط” و”الغميضة” و”البطشي” وما إلى ذلك من الألعاب التي اندثرت اليوم ولم يبق من أغلبها سوى ذكريات الزمن الجميل عند مواليد القرن العشرين.
أما ما بقي في الذاكرة كأفضل يوم في المدرسة فهو يوم الاثنين من السنة الخامسة ابتدائي- وهو بالمناسبة يوم السوق الأسبوعية في تطاوين بالإضافة إلى يوم الخميس- إذ يبدأ الدرس بالاعتماد على رسم بألوان زاهية بالطباشير فوق السبورة يكون قد أعده منذ الصباح أحد التلاميذ المبدعين يومئذ في فن الرسم بمساعدة معلم الفرنسية. وعادة ما يكون الدرس مرتبطا بالأنشطة اليومية مثل وقائع سوق الخضر أو الحيوانات أو رعي الأغنام أو فلاحة الأرض كالزرع والحصاد…الخ ويتواصل الدرس بالتعليق الشفوي طيلة الحصة على ذلك النشاط المصور فوق السبورة… أما الحصة المسائية فتخصص بالتناوب بين درس النحو والصرف. وهي من أفضل الحصص التي كانت تستهويني في ذلك العمر والتي عمقت في نفسي فيما بعد حب اللغة العربية ومتعة القراءة ومن ثم غرام الكتابة وممارستها. والى اللقاء في حلقة أخرى من ذكريات الزمن الجميل.
بقلم علي الجليطي