بقلم: علي الجليطي وعدت في مقال سابق باستعراض ورقة حول […]
بقلم: علي الجليطي
وعدت في مقال سابق باستعراض ورقة حول الطبيعة وخالقها ولكن رأيت قبل ذلك أنه من المفيد مواصلة الاحتفال بيوم اللغة العربية الذي يوافق يوم 18 ديسمبر من كل عام لأني خشيت أن تمر هذه الخاطرة دون نشرها في غير موعدها وسنعود إلى الموضوع الآخر لاحقا.
كلنا يعلم أن اللغة كوسيلة للتعبير تترجم كثيرا من الخصائص في شخصية الفرد بقدر ما تكشفه أحيانا من مكامن التفكير ودلالاته في اللاشعور الجمعي وبذلك تتجلى الفوارق بين الأفراد والشعوب والمجتمعات. فعلى سبيل المثال تبادر إلى الذهن في هذا السياق الفرق بين دلالات عبارة “التربية” عندنا وعند الغرب. فعلى الرغم من أن الأصل العربي لعبارة التربية نبيل ورفيع – فهي مشتقة في الأصل من فعل “ربّ” أي أدّب الطفل وأصلحه، ومنه المُربّي والمربّية المكلفان بتربية الأبناء- إلا انه وعلى عكس الغرب، تجمع هذه العبارة في سائر استعمالها لدينا بين الحيوان والإنسان، فهما في كيس واحد لا نفرّق فيه بين هذا وذاك. إذ نقول “تربية” الدجاج والبقر والأغنام، وسائر الحيوانات الماشية والطائرة والزاحفة، تماما كما نقول “تربية” الأطفال والناشئة والأجيال الصاعدة ومن يدري فقد تكون هابطة… ما دمنا لا نفرق في لغتنا بين البشر والحيوان. أما الغرب، الفرنسي مثلا، فهو يقول حسب الترجمة المعروفة لـ”تربية الأطفال” « EDUCATION des enfants » ويقول عن “تربية الحيوان” مهما كان نوعه « ELEVAGE ». ورغم أن هذه العبارة مشتقة من فِعل élever ومنها l’élève أي “التلميذ” طالب العلم إلا أنها لا تُستعمل إلا بشأن الحيوان فيقال « ELEVAGE des bovins ou des ovins » ولا يقال أبدا « ELEVAGE des enfants ».
وعليه لا نستغرب إن تحولت ثمرة “التربية” اليوم عند البعض منا إلى شبه تناظر بين البشر والحيوان فيكون جسم التلميذ ممتلئا لحما وشحما والرأس فارغا لا خير يرجى منه… ألم يكن ممكنا في لغتنا العربية التونسية الثرية ترويض الحيوان بعبارة أخرى غير “التربية”؟ وهي اللغة المعروف بثرائها حيث بإمكانها الجمع بين مترادفات متعددة للدلالة على معنى واحد مثلما ما هو معلوم عن “الأسد” الذي ينعم منذ القدم بعشرات الأسماء مثل الليث والضيغم والغضنفر والضرغام والهزبر وغيرها. وكذلك ما هو معروف عن”الموت” عفاكم الله حيث نقول مات فلان، وتوفي وهلك وقضى نحبه ولقي مصرعه ووافته المنية وفارق الحياة وانتقل إلى رحمة الله، فضلا عن استشهد وانتحر وقتل واغتيل وزهقت روحه…الخ.
ولا فائدة من الاستطراد، فقط أردت أن استحضر عبارة “التربية” لدينا باعتبارها مقوما أساسيا من مقومات المجتمع والحضارة مع الإشارة إلى أن هذه المقارنة البسيطة بين عبارتين في مجتمعين مختلفين قد لا يتمخض عنها حكم عام، ولكنها تثير فعلا الاهتمام بما قد تستبطنه اللغة من دلالات عميقة حول اللاشعور الجمعي في المجتمعات.