عبد الرؤوف بوفتح … كان جدّي ۔ مثل جيل ذلک […]
عبد الرؤوف بوفتح
… كان جدّي ۔ مثل جيل ذلک الوقت ۔ يضع لحرف الفاء نقطة من تحت ، وحرف القاف نقطة واحدة من فوق …أمّا الهمزة فهي دائما على السّطر ، ولا فرق عنده بين الظّاء والضّاد ..هكذا عاش دون مشاكل ..يرحمك الله يا جدي الرائع الشجاع .
لم يكن يعرف بالتأكيد كيف ابتدع ” ابو الاسود الدؤلي” اول مرة طريقة سهلة ومَرٍنة وذكية لِرسْم سُوَر القرآن الكريم حرفا حرفا من الفتحة الى الكسرة والضمة والسكون والتنوين ، باعتماده أوّل مرة لاجْزاء الصغيرة او نصفهامن بعض حروف الابجدية التي نعرفها..كالواو.. والالف وغيرهما.. وكيف تُستعمل وقت النصب، والضم ، والكسر، والرفع ، والسكون..وما الى ذلك.. حتى يُسهّل على حفظة القرآن وطُلابه وناسخيه ومُفسّريه،، تداوله: كِتَابة ونطقا وتلاوة وتجويدا دون غلط او خلط او لَحْن ولبس وتحريف.. ثم تلاه ” الخليل بن احمد الفراهيدي”.. وجماعة من جهابذة أهل اللغة ومجتهديها من بعده ، ولسنوات طويلة حتى اكتملت صياغتها في عهد عبد الملك بن مروان – فيما أظن- بالصورة والكيفية التي نكتب بها اليوم..
تذكرت حكاية جدي المناضل الضحوك الكريم – طيب الله ثراه – وانا استحضر مَقُولة :
– ” ضَعْ النقاط على الحروف “.
التي لا نتردد في اسقاطها واستعمالها جميعا في شتى المجالات والاغراض والمناسبات كلما أردنا فهم واستبيان رأي او تصرف او موقف .. اعتراه الغموض وتخلله اللبس، وحتى المكر والدهاء والخديعة والضبابية ..
نعم يااا سادتي ، هناك نقاط كثيرة لا تحصى يجب وضعها فوق حروف حياتنا بكل طيفها السياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي والثقافي.. والديني ايضا..
ولعل جائحة ” الكورونا” – التي أصابتنا في مقتل كما اصابت مجتمعات العالم بأسره.. فانها اسقطت البعير ولم تقصم ظهره على الاقل..غير أنّها كشفت نصف عوراتنا ونشرت غسيلنا على حبال رثة مهترئة ، وعلى مرأى من كل القوافل والعابرين والاغراب..
ان” الكورونا” اوجعتنا في فَقْد الابن والام والوالد والقريب والصاحب والبعيد.. وأوجعتنا كثيرا كذاك في تَعْرية واقعنا الرديء والمريض والمتعفن اصلا في أدقّ تفاصيله ..وبيّنت لنا كم اضاع حكّامنا ، وكل الذين تداولوا على التحكم فينا والعبث برقابنا وبِرِقاب أجيال برمّتها طيلة سنوات وعقود.. من اوقات من ياقوت وفرص وهبها لنا التاريخ لا تقدر بثمن.. اضاعوها من بين عيوننا وصراخنا وحناجرنا.. وحتى قلوبنا دون مراعاة لقداسة الدم وتضحيات المظلومين الثائرين البؤساء من ذوي القربى..
فرص..اعتقد انها لن تاتي بها الرياح اللواقح في دورات التاريخ النادرة ، ولن تكرر او تنفخ في شرايين الامم والاوطان و حياة الشعوب والحضارات حتى ولو أزهر المِلحْ…
فُرص.. أحالوها كمشة من الوُعّاظ ..الى زريبة خرفان ، ومزرعة دواجن..لا يبقون فيها الا على بعض الدّيّكة ليؤذنوا في الناس بشان خراب القيروان وليس مالطا…
لماذا استحي ، حين اقول اننا اليوم – ونحن شعب يُعدّ على الاصابع مقارنة بشعب الصين وامريكا وروسيا واغلب بلدان اروبا وآسيا والهند ومصر ونيجيريا..وحتى جارتنا الشقيقة الجزائر التي يبلغ تعداد سكانها ثلاثة اضعاف وربما يزيد ، عن عدد سكان تونس.. لماذا استحي ان اقول ..اننا لا نملك خبزنا وقوتنا ودواءنا وكل اسباب مناعتنا وكرامتنا لثلاثة اشهر متتالية..و سماء بلادنا وارضها بكل حقولها واحراشها وصحرائها وبحرها تكتظ بكل فاكهة وسنابل ومعادن.. وأَبّا…
لماذا نجوع ونتشرد ونمرض ونتعرّى والمطامير في ارضنا من كل حدب وصوب.. كانت ولا تزال من أجل روما..وليس لنا نحن في أكنافها نصيب..؟
لماذا تركونا بلا خيمة ، يستفحل فينا القلق والوجع المر ، نجرّ عربات اليأس جيئة وذهابا، صعودا وهبوطا.. سلخا ومسخا.. ونرمي دِلَاءنا بِحِبال أكلتها الشمس وعِثّة القهر والظلم والفساد الى قاع بئر مهجورة.. لا يوسف فيها..؟؟!
لماذا ديون تونس صارت أكثر واطول من حجارة الأهرامات ومن سور الصين العظيم..وكل مولود جديد في حَبْل سُرته دَيْن أطول من حياته التي سوف يعيش..؟!
لماذا يتداول يا الله.. الخونة والمرتزقة واللصوص والفاسدون على كل أبواب وخزائن وثروات تونس.. ويبيعون الذكر والانثى فيها ليس الى عزيز مصر..بل الى جُحوش بني ” قُريظة” ومَواليهم.. وحين ينتشر الوباء فينا..يتظاهرون بالهلع والبكاء ، و الشفقة ، وحبّ البلاد والعباد ..ثم يعمدون الى نثر كميات من القمح والعلف المستورد المتعفن في الساحات ومختلف الاماكن والجهات ..فيتدافع الجميع مثل الدجاج…لِيَنْقر الفتات..
انّ ألواحنا ياا سادتي تهشمت ، ولغتنا تعطّلت.. وحناجرنا بحّت ، وأصابعنا التي بها نكتب احترقت ..وجف الحرف في الصدور وانقطع الشذى.. وكل النقاط التي وضعناها وحسبنا انها تجدي للتوسل والغناء..لَحسْناها بريق اللسان..بالريق المُر..
لكن.. وبالتأكيد.. سوف يبعثها الله غمامة.. لان دماء الذين قاتلوا فرنسا لا تضيع..لانهم – وحدهم -هم الذين اعادوا الينا كرامتنا وتراب القلب دون مقايضة او تعويض..!
فسامحني يا جدي الطيب. لعلك كنت تدرك في اللاوعي..ان نقطة واحدة فوق الفاء..تكفي لكل هذا القلق..!