بقلم: علي الجليطي من جملة التدوينات القصيرة في زمن جميل […]
بقلم: علي الجليطي
من جملة التدوينات القصيرة في زمن جميل مضى لا زلت اذكر تلك التي جمعت زبدة الاجتهادات في نظريات الخلق، حيث رأيت يومئذ أن المسلك الأول من مسالك الإيمان بوجود خالق الكون ما يُعرف بإيمان “العجائز”، فالساذج البسيط يؤمن بوجود الله بمجرد إحساس باطني لا عقل فيه يفكر ولا عين ترى، على طريقة من يشعّ نورٌ في قلبه…
والثاني هو الإيمان “العقائدي” الذي يؤمن فيه صاحبه بوجود الشيء فيوجد. وهو إيمان سليل الحكمة الصينية التي تقول إن الشيء لا يكون موجودا، فان اعتقدت انه موجود فسيكون موجودا فعلا. مثله مثل “العين” أو “المكتوب” في تقاليدنا العربية والتونسية، فوجود الذات الربانية يكون قدرا محتوما حيث لو افترضنا جدلا أن الله غير موجود فسيكون اعتقاد المؤمن بوجوده دافعا لوجوده فعلا.
أما المسلك الثالث فهو يعتمد من ناحية على “المنطق الحسي” بالعين المجردة التي ترى وجود الله في عظمة خلقه حيث لا يمكن لهذه الدنيا أن تكون وما فيها من نظام ومن بون شاسع بين عظمة الكون ودقة الذرة إلا بسبب خالق يكون وراء كل شيء، ومن ناحية أخرى “المنطق العقلي” حيث لا يعترف الفكر والعقل بعنصر “الصدفة” في خلق الكون وتنظيمه بل بالحتمية أو السببية، أي وفق تلك النظرية الفلسفية العلمية التي تربط بين السبب والنتيجة وتربط بين كل ظاهرة طبيعية وكل نشاط بشري بما يسبقهما.
وقد أدركت اليوم أن مثل هذه الاجتهادات والمحاولات الفكرية البسيطة في تركيبها وعمقها ليست غريبة عما تتداوله أمهات المؤلفات الفلسفية والكتب ذات الشأن. وقد طالعت مؤخرا على سبيل المثال ما تطرق إليه الأديب والصحفي الفرنسي “جان دورمسن” في آخر كتاباته حيث أدت به أبحاثه الفكرية إلى الاستنتاج بأنه ” من الصعب الاقتناع بان الخوارق التي تعج بها الحياة اليومية للإنسان كلها نتيجة الصدفة التاريخية.. فالعين والبصر معجزة، والأذن والسمع معجزة… وجسم العقرب، والنمل، والنحل، وجسم الحوت والإنسان معجزة…وسير الكواكب وتعدّدها معجزة والتاريخ معجزة…والمعجزة الأكبر هي هذا النظام الدقيق الذي يحكم الكون الذي لولاه لانهار في أكثر من مرة ولكنه ظل ثابتا سليما…”
وينتهي الكاتب إلى القول بأنه “يمكن القبول بخرافة صدفة واحدة اثنتان ثلاثة…أما أن يكون سيل من الصدف كلها يسير نحو هدف واحد… فهذا يقتضي كثيرا من السذاجة وتصديق الدجل” …”إن مسرح الحياة لم ينشأ من العدم …بل كان مشروعا مخططا له من قبل مهندس. بل هو سيناريو أو رواية لها كاتبها ومخرجها. وخلف رواية الكون ذات الهيكلية الواضحة والمنعرجات المشوقة، وخلف هذا المسرح الكبير للحياة… المتميز بعقدته المحبوكة بحنكة وحواراته الجيدة ونوادره الكثيرة وأسلوبه المحمود من الجميع، وراء هذا الخليط الناجح من التراجيديا والكوميديا شيء شبيه بالقوة المجهولة… سمّها ما شئت. اليهود ينادونها يهوه…والمسيحيون أنزلوها بين البشر…والمسلمون يعبدون الله…وأفلاطون يدعوها سلطان الخير…(انظر كتاب جان درموسون بعنوان “رغم كل شيء أقول أن هذه الحياة كانت جميلة…” Je dirai malgré tout que cette vie fut belle ’’. Ed. Gallimard.2016
ولنا عودة لمزيد التأمل في هذه المعاني.