مال: تتيح التجارة الدولية للبلدان إمكانية الوصول إلى السلع والخدمات التي لربما لم تكن متاحة بمعزل عنها. ونتيجة لذلك، فإن التجارة الدولية توفر مزايا
تتيح التجارة الدولية للبلدان إمكانية الوصول إلى السلع والخدمات التي لربما لم تكن متاحة بمعزل عنها. ونتيجة لذلك، فإن التجارة الدولية توفر مزايا نسبية تؤدي إلى تعزيز الإنتاجية والكفاءة والتسعير والنمو الاقتصادي العام. ويعتبر النشاط التجاري العالمي مؤشراً تقليدياً لسلامة أوضاع واتجاهات الاقتصاد الكلي. ويرتبط تزايد تدفقات السلع والخدمات عادة بنمو الإنتاجية والازدهار.
بلغت التجارة العالمية ذروتها قبل الأزمة المالية العالمية. لكن التوترات الجيوسياسية الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين وتداعياتها على مناطق ودول أخرى تولد حالة من عدم اليقين الاقتصادي في مختلف أرجاء العالم. وهذا يؤثر سلباً على التجارة وسلاسل التوريد وتدفقات الاستثمار. وتعتبر الحواجز الحدودية الجديدة المتمثلة في العوائق الجمركية وغير الجمركية، والضوابط التنظيمية والتكاليف الإدارية الإضافية، وتقلب السياسات الاقتصادية، من العقبات التي تواجهها الشركات في هذا المشهد الاقتصادي الجديد.
تتعمق هذه المقالة في دراسة حالة تتمثل في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لمعرفة الدور الذي يمكن أن يلعبه “التفكك الاقتصادي” في ضعف الأداء الاقتصادي. لا شك أن العديد من الأحداث والصدمات الكبرى الأخرى عطلت الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة. ولكن هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن العملية التي بدأت بتصويت المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي كان لها دور مهم في ذلك.
يُظهر التقدير الشهري الرسمي للناتج المحلي الإجمالي أن النشاط الاقتصادي في المملكة المتحدة قد نما بنسبة 0.3% فقط منذ بداية عام 2022، ولا يزال أقل بنسبة 0.4% من مستويات ما قبل الجائحة. في المقابل، كان النمو السنوي أعلى بكثير في فترة الخمس سنوات من 2011 إلى 2015، والتي سبقت الاستفتاء بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، حيث بلغ متوسط النمو السنوي في تلك الفترة 2.2%. وتعتبر المملكة المتحدة أيضاً متخلفة عن الاقتصادات الأوروبية الرئيسية، فقد تجاوز “نظراؤها الأوروبيون”، وهم أكبر ثلاثة اقتصادات في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا)، معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي التي حققوها في فترة ما قبل الجائحة بنسبة 1.2%.
في منتصف عام 2016، أثناء الاستفتاء، بلغ إسهام الانفتاح التجاري في المملكة المتحدة 60.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وكان هذا أقل بواقع 6.5 نقطة مئوية من متوسط النسبة المسجلة من قبل للنظراء الأوروبيين والتي بلغت 67%. وفي عام 2022، زاد هذا الاختلاف بضعفين إلى 13.3 نقطة مئوية، وهو ما يشير إلى أن الاقتصاد البريطاني أصبح أقل انفتاحاً.
علاوة على ذلك، ونظراً لأهمية سلاسل القيمة العالمية، فإن تراجع الانفتاح التجاري سيؤثر على التجارة مع جميع الشركاء، وليس فقط الشركاء في الاتحاد الأوروبي. تمثل السلع والخدمات الوسيطة معظم التجارة في الاقتصادات المتقدمة، وتبلغ ثلثي أحجام التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وتؤثر زيادة العقبات التجارية على تكاليف الإمدادات الأجنبية، وتقلل من القدرة التنافسية لمنتجات المملكة المتحدة، وتقوض قدرة الشركات على المشاركة في سلاسل القيمة العالمية. وسوف تستغرق هذه العواقب وقتاً حتى يظهر مفعولها بالكامل. يشير التحليل الذي أجراه مكتب مسؤولية الميزانية (وكالة حكومية) إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيقلل الانفتاح التجاري بنسبة 15% على المدى الطويل، مما يوسع الفارق الحالي البالغ 13.3% مع نظراء المملكة المتحدة في منطقة اليورو.
إن حالة عدم اليقين التي نتجت عن عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفقدان الوصول إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي قد أثرت أيضاً على الاستثمار التجاري، فقد ظل مستوى الاستثمار في حالة ركود وظل دون تغيير تقريباً منذ استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى تراجع أداء المملكة المتحدة مقابل نظرائها في منطقة اليورو. وتشير التقديرات الأكثر تحفظاً إلى أن التأثير السلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مستوى الاستثمار يبلغ 10% (وتصل بعض التقديرات إلى 23%)، مما يؤكد أن تأثيره كان كبيراً على مخزون رأس المال والنمو طويل الأجل، حتى في ظل السيناريوهات الأكثر تفاؤلاً.
ترجع التغييرات في الاستثمار الأجنبي المباشر جزئياً إلى التطورات في إجمالي الاستثمار. فبالإضافة إلى أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر للنمو والإنتاجية، فإنه مهم لأنه يعكس مدى تطور جاذبية المملكة المتحدة بمرور الوقت. منذ تسعينيات القرن الماضي، كانت المملكة المتحدة تاريخياً من أكبر المتلقين لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وتجاوز مخزونها من الاستثمار الأجنبي المباشر 2.3 تريليون جنيه إسترليني، وكان أكثر من نصفه يأتي من الاتحاد الأوروبي. ولكن في الآونة الأخيرة، خلال الفترة التي أعقبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي 2017-2021، تراجعت المملكة المتحدة وراء فرنسا وألمانيا من حيث تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
بإيجاز، تواصل المملكة المتحدة تحقيق أداء اقتصادي دون المستوى بعد سنوات من قرار مغادرتها الاتحاد الأوروبي بموجب استفتاء عام 2016، ويمكن أن يُعزى ذلك بشكل أساسي إلى التأثير السلبي للقيود التجارية الجديدة. توضح دراسة الحالة هذه أن الحواجز الجمركية وغير الجمركية واللوائح الإضافية والتكاليف الإدارية والخلافات الاقتصادية الأخرى تؤدي إلى سوء تخصيص رأس المال مما يؤدي إلى انخفاض النمو والإنتاجية.